الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معنى حديث: "الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر"

السؤال

‎"إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ..." إلى آخر الكلام.
‎كلام يشعر الإنسان بعزة إسلامه، فرضي الله عن ربعي بن عامر صاحب هذا الكلام.
‎سؤالي هو عن عبارة ذكرت فيه: "ومن ضيق الدنيا إلى سعتها"، وحسب علمي فقد ورد في رواية أخرى: "إلى سعة الدنيا والآخرة"، والسؤال هو: أليست الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر؟ والآخرة جنة المؤمن، وسجن الكافر؟ ‎فما السعة التي سيخرج منها من هم غير مسلمين؟ ‎أليسوا يفعلون كل ما يوافق أهواءهم، وشهواتهم بلا رادع؟ والمسلم هو من يمتنع عن كل ذلك؟ ‎فما المقصود بالعبارة؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن هذه المقالة العظيمة التي واجه بها ربعي بن عامر -رضي الله عنه- رستم، قائد الفرس في القادسية مشهورة، وقد ذكرها الطبري في تاريخه، وغيره.

وأما المقصود من قوله: (ومن ضيق الدنيا إلى سعتها)، فالظاهر أنه يتعلق بضيق الصدر بالكفر، والإعراض عن الله -والذي لا يوسعه نعيم الدنيا كله- إلى سعة الإيمان بالله، والصلة به -والذي لا تضيقه رزايا الدنيا كلها-.

ولا يعارض ذلك الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر.

فإن المراد بكون الدنيا سجنًا للمؤمن، إنما هو بالنسبة لما ينتظره في الآخرة من النعيم -ولو كان أنعم الناس في الدنيا-، وكذلك الكافر؛ فإن الدنيا له جنة بالنسبة لما ينتظره من العذاب في الآخرة -ولو كان أشد أهل الدنيا بؤسًا-، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة في المحبة: فأما ما وعد به المؤمن بعد الموت من كرامة الله، فإنه تكون الدنيا بالنسبة إليه سجنًا. وما للكافر بعد الموت من عذاب الله، فإنه تكون الدنيا جنة بالنسبة إلى ذلك. اهـ.

وقال الإمام ابن القيم في شفاء العليل: فالمؤمن منشرح الصدر، منفسحه في هذه الدار، على ما ناله من مكروهها. وإذا قوي الإيمان، وخالطت بشاشته القلوب، كان على مكارهها أشرح صدرًا منه على شهوتها ومحابها. فإذا فارقها، كان انفساح روحه، والشرح الحاصل له بفراقها، أعظم بكثير، كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع، موافق له؛ فإنها سجن المؤمن، فإذا بعثه الله يوم القيامة، رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه، فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية، فهو أصل كل نعمة، وأساس كل خير. اهـ.

ومن اللطائف التي يجمل ذكرها ها هنا، ما حكاه المناوي في فيض القدير، قال: ذكروا أن الحافظ ابن حجر لما كان قاضي القضاة، مر يومًا بالسوق في موكب عظيم، وهيئة جميلة، فهجم عليه يهودي يبيع الزيت الحار، وأثوابه ملطخة بالزيت، وهو في غاية الرثاثة والشناعة، فقبض على لجام بغلته، وقال: يا شيخ الإسلام، تزعم أن نبيكم قال: الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر. فأي سجن أنت فيه، وأي جنة أنا فيها؟ فقال: أنا بالنسبة لما أعد الله لي في الآخرة من النعيم، كأني الآن في السجن، وأنت بالنسبة لما أعد لك في الآخرة من العذاب الأليم، كأنك في جنة، فأسلم اليهودي. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني