الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مناقشة ابن حزم بإيجابه الاجتهاد على العامي

السؤال

هل قول ابن حزم في حرمة التقليد سائغ، واشتراطه قول المستفتي للمفتي إذا أفتاه: أهكذا حكم الله -أو نحو ذلك-؟
وما حكم من يأخذ بقوله في زماننا؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن مسائل الاجتهاد والتقليد من المسائل التي فيها جدل واسع، وهي مباحث لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب أصول الفقه، وقد أفردت هذه المسألة بالتصنيف، فلن يؤتى فيها بجديد.

وعلى كل حال: فإنه لا ابن حزم -ولا أي عاقل- يمكن أن يقول بأن العامي له الهجوم على النصوص ومصادر التشريع، لأخذ الأحكام الفقهية منها بأنواع الاستدلال والاستنباط، وذلك لأن العامي ليس له شيء من آلة الاجتهاد، فلا يقدر على ذلك أصلا.

فقول ابن حزم وغيره بإيجاب الاجتهاد على العامي العاجز عن الاستدلال، لا يعدو كونه مجرد مماحكة لفظية، وفرار من لفظ التقليد! وإلا فالاجتهاد الذي يوجبه ابن حزم على العامي، هو أن يسأل المفتي في النازلة: أهذ حكم الله ورسوله!!

فقد قال ابن حزم في الإحكام: إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة، ولم يخص الله تعالى بذلك عاميا من عالم، ولا عالما من عامي. وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد، فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده، والعامي والعذراء المخدرة، والراعي في شعف الجبال، كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق، والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما خص المرء من دينه، لازم لكل من ذكرنا كلزومه للعالم المتبحر، ولا فرق. فمن قلد من كل من ذكرنا، فقد عصى الله عز وجل وأثم، ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد، فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه؛ لقوله تعالى: {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على لقوم الكافرين}، ولقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.

والتقوى كله هو العمل في الدين بما أوجبه الله تعالى فيه، ولم يكلفنا تعالى منه إلا ما نستطيع فقط، ويسقط عنا ما لا نستطيع. وهذا نص جلي على أنه لا يلزم أحدا من البحث على ما نزل به في الديانة إلا بقدر ما يستطيع فقط، فعلى كل أحد حظه من الاجتهاد ومقدار طاقته منه. فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه، فأفتاه أن يقول له: هكذا أمر الله ورسوله، فإن قال له نعم، أخذ بقوله، ولم يلزمه أكثر من هذا البحث، وإن قال له لا، أو قال له هذا قولي، أو قال له هذا قول مالك أو ابن القاسم، أو أبي حنيفة أو أبي يوسف، أو الشافعي، أو أحمد أو داود، أو سمى له أحدا من صاحب أو تابع، فمن دونهما غير النبي صلى الله عليه وسلم، أو انتهره، أو سكت عنه، فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه، وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء، وأن يطلبه حيث كان إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى، وحكم محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك، وما يجب في دين الإسلام في تلك المسألة ولو علم أنه يفتيه بغير ذلك لتبرأ منه وهرب عنه. اهـ.
فهل يعد سؤال العامي للمفتي (أهكذا حكم الله وحكم رسوله) خروجا عن مطلق التقليد واجتهادا مطلقا؟ فالجواب طبعا: لا، وإلا لترتب على القول بذلك إلزام العامي بالنظر في الأدلة، وأنواع الدلالات وأقوال الصحابة والعلماء، وغير ذلك من مقتضيات الاجتهاد.

فالأمر إذاً أقرب إلى الجدل اللفظي، فلا مانع من أن يُسلَّم لابن حزم بأن سؤال العامي للعلماء اجتهاد في حقه وليس تقليدا، إن كان كراهة لفظ (التقليد) والنفور منه هو سبب الإشكال!!

ثم إن عامة الأحكام الاجتهادية الظنية هي رأي المفتي واجتهاده، فليس له الجزم بأن رأيه وترجيحه هو حكم الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وهذا ما دلت عليه السنة، وهدي الصحابة، وسلف الأمة.

قال ابن القيم: وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أميره بريدة، أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله، وقال: فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك. فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله.

ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حكما حكم به، فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنا؛ فينبغي هذا، ولا نرى هذا، ورواه عنه عتيق بن يعقوب، وزاد: ولا يقولون حلال ولا حرام، أما سمعت قول الله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59]. الحلال: ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.اهـ. من أعلام الموقعين.

فالأصل أن المفتي يفتي برأيه وظنه، ولا يجزم بأن رأيه واجتهاده هو حكم الله سبحانه، إلا في المسائل المحكمة القطعية غير الاجتهادية.

وراجع لمزيد الفائدة، الفتاوى أرقام: 265300، 157487، 17519.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني