الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مذاهب الفقهاء في نذر اللجاج

السؤال

حلفت وقلت: والله لن أذهب إلى مكان ما. ولو حنثت وذهبت، سوف تكون كل خطوة إلى هناك بكفارة يمين. ثم حنثت وذهبت، وقلتم لي إن هذا يمين لجاج. ولكن لي سؤالان.
السؤال الأول: هل قولي: كل خطوة بكفارة يمين، تفيد التكرار، أي أنه لا بد من إخراج آلاف الكفارات. أم يعتبر قولي: كل خطوة بكفارة، لحساب وتقدير عدد الكفارات.
السؤال الثاني: هل قول الإمام مالك: إذا حلفت وقلت: لو فعلت كذا فعلي عشر كفارات، فإنه يلزمك عشر كفارات.
هل بذلك علي آلاف الكفارات، أم للعلماء قول آخر؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد أفتيناك من قبل بأن هذا من قبيل نذر اللجاج، فيلزمك فيه أحد أمرين، إما أن تخرج عن كل خطوة كفارة، وإما أن تخرج كفارة يمين واحدة يسقط عنك بها موجب النذر، وتجزئك كفارة يمين واحدة؛ لأنه نذر واحد، ولم تتلفظ فيه بلفظ يفيد التكرار، وهذا مذهب الجمهور في نذر اللجاج.

وأما الإمام مالك -رحمه الله- فمذهبه لزوم الوفاء بنذر اللجاج، فعلى مذهبه لا يجزئك إلا أن تكفر كفارة عن كل خطوة مشيتها، والمفتى به عندنا هو مذهب الجمهور.

قال ابن قدامة في المغني: إذَا أَخْرَجَ النَّذْرَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، بِأَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ بِهِ شَيْئًا، أَوْ يَحُثَّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ، أَوْ صَدَقَةُ مَالِي، أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ. فَهَذَا يَمِينٌ، حُكْمُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَبَيْنَ أَنْ يَحْنَثَ، فَيَتَخَيَّرَ بَيْنَ فِعْلِ الْمَنْذُورِ، وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَيُسَمَّى نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ نَذْرُ التَّبَرُّرِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثور وابن المنذر...

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ.

وَلَنَا، مَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ». رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْجُوزَجَانِيُّ، فِي "الْمُتَرْجَمِ". وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ، أَوْ الْهَدْيِ، أَوْ جَعْلِ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ فِي الْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ». وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ يَمِينٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]. وَدَلِيلُ أَنَّهُ يَمِينٌ، أَنَّهُ يُسَمَّى بِذَلِكَ، وَيُسَمَّى قَائِلُهُ حَالِفًا، وَفَارَقَ نَذْرَ التَّبَرُّرِ؛ لِكَوْنِهِ قَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْبِرَّ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَهَا هُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ قُرْبَةً وَلَا بِرًّا، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ مِنْ وَجْهٍ وَالنَّذْرَ مِنْ وَجْهٍ، فَخُيِّرَ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني