الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

موقف الابن إن تعذر عليه الجمع بين طاعة الأم والأب

السؤال

جزاكم الله خيرا، وجعل ذلك في ميزان حسناتكم، وزادكم علما إلى علمكم، ونفع بكم.
سؤالي -أثابكم الله-: هل لي أن أسافر بدون رضى والدتي؟
والدي قد رأى أن يشتري له أملاكا في اليمن، وقد اعترضنا بشدة على أن يسافر، ناهيك عن الشراء في هذه الأوضاع. لكنه قال: من يخاف علي، يسافر معي. استأذنت الوالدة أنا وأخي، لكنها رفضت السفر إلى اليمن رفضا قاطعاً؛ لما بها من البلاء الذي لا يخفى عليكم.
سافر الوالد لوحده، واشترى ما اشترى، لكن عدم سفرنا معه بقي حسرة في قلبه، وقال لي: أسأل الله أن يقتص حقي منكم.
في الشهر الماضي كان هناك، واجتمع عليه عدد من المسلحين وحاولوا اغتصاب العقار الذي اشتراه، ويعلم الله مقدار الحسرة التي شعر بها وهو في تلك الحال أن يرى أولاده الذين شبوا، ولا يستند إليهم ظهره.
أما الوالدة فإذا تكلمنا معها تقول: "والدك يستطيع تصريف أموره بماله، أما أنا فليس لدي إلا أنتما، ومنعكما من السفر حقٌ من حقوقي. وقد منع الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة من الجهاد، وأمره بالتزام والديه (ففيهما فجاهد)"، وأنها هي الأحق بحسن الصحبة (من أحق الناس بحسن صحابتي)، وأن من حقها منعنا من السفر؛ لما تمر فيه البلاد من فتن دينية وخوف ووو الخ، وقد جمعت من الأدلة ما يدعم رأيها.
والدي سيسافر مرة أخرى؛ لأنه يعمل في العقار الذي اشتراه، وقد طلب مني مرارا السفر معه، وأنه قد كبر سنه (عمره الآن 65 عاما) ويعاني من السكر وأمراض القلب، وأنه يجب أن نأخذ عنه. وللعلم فإن مشكلة المغتصبين ما زالت قائمة، وقد تحولت إلى المحكمة.
فماذا أفعل؟ فنحن بين نارين (على قولهما)، فإن أطعت والدتي، حل علي غضب والدي، وإن أطعت والدي، حل علي غضب والدتي. وكلاهما يعلم ذلك، ولم يتنازل أحدهما للآخر، وكل منهما يرى أن الحق له، وكل منهما متمسك برأيه بشده، ولم تنفع معهما محاولات الإقناع، وبينهما خلاف كبير، ولا حديث بينهما إلا للضرورة القصوى.
وهل سيؤثر عقوق أحدهما على ديني؟ فقصة العابد جريج تدق في رأسي، وإني لستُ بعابدٍ ولا أقارن به، لكن من باب القياس، فأنا أشعر بالفتور وعدم التوفيق منذ بدأت المشكلة.
أضع أمامكم حِمْلي، فأعينوني عليه، أسأل الله أن يضع عنكم أثقالكم يوم (وإن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) وتكرمًا لا أمرًا، إن استطعت أن تورد الأدلة؛ لأني سأطلعهما على فتواكم الكريمة.
وأعتذر بشدة عن الإطالة، وأسأل الله أن يجزيكم عنا خير الجزاء.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن تعذر الجمع بين طاعة الأم والأب وبرهما، فإن المقدَّم عند جمهور العلماء هو حق الأم، وأدلة ذلك قد ذكرها السائل في سؤاله على لسان أمه. ولذلك قال الصنعاني في شرح الجامع الصغير: إن قلت: إذا كان فعلا يحزن أحدهما دون الآخر -يعني الأم والأب-؟ قلت: يتركه؛ لأنه مأمور ببرهما. فإن بر الأم دون الأب جاز فعله؛ لأن حق الأم آكد. اهـ.

وقال ابن بطال وابن الملقن كلاهما في شرح صحيح البخاري: روي عن مالك أن رجلا قال له: إن أبي في بلاد السودان، وقد كتب إلي أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك. فقال: أطع أباك، ولا تعص أمك! فدل قول مالك هذا أن برهما عنده متساويا، ولا فضل لواحد منهما فيه على صاحبه، لكنه قد أمره بالتخلص منهما جميعا، وإن كان لا سبيل له إلى ذلك في هذه المسألة، ولو كان لأحدهما عنده فضل في البر على صاحبه لأمره بالمصير إلى أمره. وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها ثلثي البر، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- يدل أن لها ثلاثة أرباع البر، وأن طاعة الأم مقدمة، وهو الحجة على من خالفه. اهـ.

وقال القاضي عياض في إكمال المعلم: اختلف العلماء فيما بين الأب والأم، فقيل: يجب أن يكون برهما سواء، وتأول أن هذا اختيار مالك ومذهبه. وروى الليث أن حق الأم آكد، وأن لها ثلثي البر. وذكر المحاسبي أن تفضيل الأم على الأب في البر، إجماع العلماء. اهـ.

وقال ابن حجر في فتح الباري: وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين. فسوى بينهما في الوصاية، وخص الأم بالأمور الثلاثة.

قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة.

وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب. وقيل: يكون برهما سواء. ونقله بعضهم عن مالك، والصواب الأول.

قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر. وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحا في ذلك. اهـ.
وقال النووي في شرح حديث أبي هريرة: فيه الحث على بر الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب. قال العلماء: وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه، وشفقتها وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته وخدمته وتمريضه. اهـ.

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: الأم مقدمة في البر على الأب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: «من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك» متفق عليه، فقدمها صلى الله عليه وسلم على سائر القرابة، وكرر ذكرها ثلاثا. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة، الفتاوى التالية أرقامها: 33419، 27653، 65064.

ويتأكد ما سبق بمراعاة الحال التي ذكرها السائل، فإن أمه تمنعه من السفر مع أبيه، لأسباب وجيهة وظاهرة، ومعتبرة شرعا، في حين أن الأب غير مضطر للسفر أصلا، ولا لشراء ما يريد شراءه في بلده.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني