الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معاني: خير الراحمين، وخير الرازقين، وخير الغافرين

السؤال

ماذا يعني خير الراحمين، خير الرازقين، خير الغافرين، خير الحاكمين، فهذه الأفعال لا يفعلها إلا الله، فما التفسيرات المختارة؟ و ما هي الحكمة إن عرفت بذكر هذه الصيغة؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن دعواك أن الرحمة، والرزق، والمغفرة، والحكم أفعال خاصة بالله سبحانه لا يفعلها غيره، دعوى عارية عن البرهان.

فقد أخبر الله سبحانه بهذه الأفعال عن عباده المخلوقين، ففي الرحمة يقول الله سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {التوبة:128}، وفي المغفرة يقول جل وعلا: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ {الشورى:37}، وفي الرزق يقول سبحانه: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا {النساء:8}، وفي الحكم يقول سبحانه: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {المائدة:42}.

وأما إخبار الله سبحانه بتفضيل ذاته العلية وصفاته على ما سواه سبحانه، فكثير في القرآن العظيم، كقوله سبحانه: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {يوسف:64}، وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى {طه:73}، وقوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ {آل عمران:54}، وقوله: بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ {آل عمران:150}، وقوله: وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {المائدة:114}، وقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ {الأنعام:57}، وقوله: وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ {الأعراف:87}، وقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ {الأعراف:89}، وقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ {الأعراف:155}، وقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ {الأنبياء:89}، وقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ {المؤمنون:29}، وقوله: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {المؤمنون:118}، وقوله: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ {الأنعام:19}، وقوله: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {العلق:3}، وقوله سبحانه: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ {الإسراء:55}، إلى غير ذلك من الآيات.

وظاهر جدًّا ما في هذا التفضيل من بيان كمال الله جل وعلا، وفضله سبحانه على كل ما سواه، قال ابن تيمية:

والتكبير يتضمن أنه أكبر من كل شيء، فما يحصل لغيره من نوع صفات الكمال -فإن المخلوق متصف بأنه موجود، وأنه حي، وأنه عليم قدير سميع بصير إلى غير ذلك- فهو سبحانه أكبر من كل شيء، فلا يساويه شيء في شيء من صفات الكمال، بل هي نوعان:

نوع يختص به، ويمتنع ثبوته لغيره، مثل كونه رب العالمين، وإله الخلق أجمعين، الأول الآخر الظاهر الباطن القديم الأزلي الرحمن الرحيم مالك الملك عالم الغيب والشهادة، فهذا كله هو مختص به، وهو مستلزم لاختصاصه بالإلهية، فلا إله إلا هو، ولا يجوز أن يعبد إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، ولا يخشى إلا هو، فهذا كله من تحقيق "لا إله إلا الله".

وأما "الله أكبر" فكل اسم يتضمن تفضيله على غيره، مثل قوله: اقرأ وربك الأكرم، وقوله: فتبارك الله أحسن الخالقين، وقوله: وأنت أرحم الراحمين، وقوله: وأنت خير الغافرين. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم: أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟

وأما قول بعض النحاة: إن "أكبر" بمعنى كبير، فهذا غلط مخالف لنص الرسول صلى الله عليه وسلم، ولمعنى الاسم المنقول بالتواتر.

وعلى هذا؛ فعلمه أكبر من كل علم، وقدرته أكبر من كل قدرة، وهكذا سائر صفاته، كما قال تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم)، فشهادته أكبر الشهادات.

فهذه الكلمة تقتضي تفضيله على كل شيء مما توصف به الأشياء من أمور الكمالات التي جعلها هو سبحانه لها. اهـ. باختصار من جامع المسائل.

وإنما الذي قد يستشكل هو قوله سبحانه: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {المؤمنون:14}، باعتبار أن الله سبحانه هو المتفرد بالإيجاد من العدم، لكن معنى الخلق في هذه الآية هو الصنع، والتقدير، وليس الإيجاد من العدم، قال ابن عطية في تفسيره: وقوله: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ، معناه: الصانعين، يقال لمن صنع شيئًا: خلقه، ومنه قول الشاعر:

ولأنت تفري ما خلقت وبع .. ض القوم يخلق ثم لا يفري

وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس، فقال ابن جريج: إنما قال الْخالِقِينَ؛ لأنه تعالى قد أذن لعيسى في أن يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك، ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع، وإنما هي منفية الاختراع، والإيجاد من العدم. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني