الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم رفع اليدين بالدعاء بعد الصلاة.

السؤال

ما حكم رفع اليد بالدعاء بعد كل صلاة فريضه بعد الانتهاء من التسبيح؟ وهل ينكر على من يفعل ذلك بشكل دائم؟ وهل هناك خلاف بين أهل العلم في هذه المسأله؟ وجزاكم الله خيرا

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فالدعاء بعد الصلاة المفروضة مشروع لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة وقد بوب البخاري بذلك قال " باب الدعاء بعد الصلاة " قال الحافظ في الفتح أي المكتوبة، وفي هذه الترجمة رد على من زعم أن الدعاء بعد الصلاة لايشرع، متمسكاً بالحديث الذي أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن الحارث عن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يتثبت إلا قدر ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذ الجلال والإكرام. والجواب أن المراد بالنفي المذكور نفي استمراره جالساً على هيئته قبل السلام إلا بقدر أن يقول ما ذكر، فقد ثبت أنه كان إذا صلى أقبل على أصحابه. فيحتمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل بوجهه على أصحابه.
ثم نقل الحافظ كلام ابن القيم في الهدي والذي فهم منه بعض أهل العلم أنه ينفي فيه مشروعية الدعاء بعد الصلاة مطلقاً، ثم ذكر الحافظ عقب ذلك أن دعوى نفي مشروعية الدعاء بعد الصلاة مطلقاً مردودة. وساق بعض ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كحديث معاذ بن جبل حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم " يا معاذ إني والله لأحبك فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم.
وحديث زيد بن أرقم" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر كل صلاة:"اللهم ربنا ورب كل شيء " الحديث أخرجه أبو داود والنسائي.
وحديث صهيب رفعه: كان يقول إذا انصرف من الصلاة:" اللهم أصلح لي ديني …" الحديث أخرجه النسائي وصححه ابن حبان.
ثم قال: فإن قيل المراد بدبر كل صلاة قرب آخرها وهو التشهد قلنا: قد ورد الأمر بالذكر دبر كل
صلاة ، والمراد به بعد الصلاة إجماعاً فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه. وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال : "جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبة".
ثم ذكر الحافظ أن حاصل كلام ابن القيم يفيد أن ما نفاه من مشروعية الدعاء بعد الصلاة مقيد باستمرار استقبال المصلي القبلة وإيراده له بعد السلام. وأما إذا انتقل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ. انتهى كلام الحافظ مختصراً.
وهو كما قال الحافظ فإن ابن القيم بعد ما نفى مشروعية الدعاء بعد الصلاة قال: " إلا أن هنا نكتة لطيفة وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته وذكر الله وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة استحب له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ويدعو بما شاء . إلى آخره كلامه.
وبالجملة فإن الدعاء بعد الصلاة مشروع، إلا أنه كغيره من السنن لا بأس أن يفعل تارة ويترك تارة أخرى، لئلا يظنه الجاهل واجباً لا بد منه بعد الصلاة .
فإذا علمت مشروعية الدعاء بعد الصلاة على الصورة المتقدمة فأعلم أن الأصل أن يرفع الداعي يديه حال دعائه تضرعاً إلى ربه واستجداء لنواله وإظهاراً للذل والانكسار والفقر إليه سبحانه وتعالى.
ولا يخرج عن هذا الأصل ويترك إلا في الحالات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على الدعاء فيها في ملأ من الناس ولم ينقل عنه أنه رفع يديه فيها كالدعاء أثناء الصلاة وفي خطبة الجمعة في غير الاستسقاء.
أما ما سوى ذلك من الدعاء فرفع اليدين فيه مشروع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث كثيرة منها حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين وغيرهما وفيه: " فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ ثم رفع يديه ثم قال "اللهم اغفر لعبيد أبي عامر حتى رأيت بياض إبطيه…" ومنها ما في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما في قصة خالد وأمره لأصحابه أن يقتل كل واحد منهم أسيره فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك رفع يديه فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" مرتين.
وقد بوب البخاري أيضاً لهذه المسألة فقال: باب رفع الأيدي في الدعاء وأشار ضمن هذه الترجمة لهذين الحديثين وغيرهما. قال الحافظ في "الفتح" وفي الحديث الأول رد من قال لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء , بل فيه وفي الذي بعده رد على من قال لا يرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء أصلا , وتمسك بحديث أنس " لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء " وهو صحيح , لكن جمع بينه وبين أحاديث الباب وما في معناها بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع، وقد أشرت إلى ذلك في أبواب الاستسقاء , وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلا وفي الدعاء إلى حذو المنكبين , ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كل منهما "حتى يرى بياض إبطيه" بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره , وإما أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء , قال المنذري : وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح . قلت : ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك , فإن فيه أحاديث كثيرة أفردها المنذري في حزء سرد منها النووي في " الأذكار " وفي " شرح المهذب " جملة . وعقد لها البخاري أيضا في " الأدب المفرد " بابا ذكر فيه حديث أبي هريرة " قدم الطفيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن دوسا عصت فادع الله عليها , فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال : اللهم اهد دوسا " وهو في الصحيحين دون قوله " ورفع يديه " وحديث جابر " أن الطفيل بن عمرو هاجر " فذكر قصة الرجل الذي هاجر معه وفيه " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم وليديه فاغفر ورفع يديه " وسنده صحيح , وأخرجه مسلم . وحديث عائشة أنها " رأت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو رافعا يديه يقول : اللهم إنما أنا بشر " الحديث وهو صحيح الإسناد . ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك ما أخرجه المصنف في " جزء رفع اليدين " : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان " ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة في قصة الكسوف " فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه يدعو " وعنده في حديث عائشة في الكسوف أيضا " ثم رفع يديه يدعو " وفي حديثها عنده في دعائه لأهل البقيع " فرفع يديه ثلات مرات " الحديث . ومن حديث أبي هريرة الطويل في فتح مكة " فرفع يديه وجعل يدعو " وفي الصحيحين من حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية " ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه يقول : اللهم هل بلغت " ومن حديث عبد الله بن عمرو " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قول إبراهيم وعيسى فرفع يديه وقال : اللهم أمتي " وفي حديث عمر " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل , فأنزل الله عليه يوما , ثم سرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه ودعا " الحديث أخرجه الترمذي واللفظ له والنسائي والحاكم , وفي حديث أسامة " كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فرفع يديه يدعو , فمالت به ناقته فسقط خطامها , فتناوله بيده وهو رافع اليد الأخرى " أخرجه النسائي بسند جيد , وفي حديث قيس بن سعد عند أبي داود " ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول : اللهم صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة " الحديث وسنده جيد . والأحاديث في ذلك كثيرة : وأما ما أخرجه مسلم من حديث عمارة بن رُوَيبة أنه " رأى بشر بن مروان يرفع يديه , فأنكر ذلك وقال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يزيد على هذا يشير بالسبابة " فقد حكى الطبري عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره وقال : السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدة , ورده بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة , وهو ظاهر في سياق الحديث فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها , وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وغيرهما من حديث سلمان رفعه " إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صِفرا " أي خالية وسنده جيد .انتهى من الفتح بلفظه .
والحاصل بعد هذا كله أن الدعاء دبر الصلوات بعد الفراغ من الذكر المشروع مشروع ثابت، وأن رفع اليدين في الدعاء أيضاً مشروع ثابت، وعليه فمن دعا بعد كل صلاة ورفع يديه حال الدعاء لا ينكر عليه فعله، ولو داوم على ذلك، وما روي عن بعض أهل العلم من كراهة ذلك مرجوح بما تقدم من الأدلة وأقوال أهل العلم.
ومع ذلك فقد كره العلماء لمن يقتدي به العوام من إمام أو عالم أو نحوهما المداومة على بعض السنن التي قد يظن العوام أنها فرائض أو من تتممات الفرئض، ويدخل في ذلك مسألتنا هذه.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني