الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ترك العمل في بنوك الربا بين الرخصة والعزيمة

السؤال

علمت عن طريق سيادتكم وعن طريق البحث الشاق في مسألة العمل في البنوك بحرمة العمل في البنوك الربوية ففكرت جديا والله أعلم بصدق نيتي في ترك العمل بالبنوك إلا أنني مديون بمبلغ ليس بالكبير ولا القليل وذلك لبنوك أخرى وهذه المديونية تتطلب سداد مبالغ شهريا في حدود دخلي من العمل بالبنوك وعدم السداد يترتب عليه بعض المشاكل القانونية .فأنا الآن أسأل سيادتكم ما العمل أأترك العمل تطبيقا للآية الكريمة (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) أم أنتظر وإذا انتظرت ما موقف عباداتي التي أقوم بأدائها أهي مرفوضة أم مقبولة، أرجوكم أفيدوني لوجود صراع نفسي رهيب بداخلي كما أرجو أن تفيدوني باختلاف بعض العلماء في حرمة العمل في البنوك .
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإذا كان تركك للعمل في البنك الربوي قبل الحصول على عمل آخر مباح يترتب عليه وقوعك في ضرورة ملجئة مثل أن لا تجد ما تأكل أو ما تشرب ونحو ذلك أو عجزك عن سداد ما عليك من الديون وتعرضك للسجن الطويل، فيجوز لك البقاء في هذا العمل والأكل من دخله بالقدر الذي تندفع به الضرورة، حتى تجد عملا آخر، والأصل في هذا قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ {الأنعام: 119}. وراجع الفتوى رقم: 48727. وأما إذا كان تركك لهذا العمل لا يترتب عليه شيء من ذلك فيجب عليك تركه فورا. وفي الحالة الأولى: إن شئت أن تترك هذا العمل رغم ما يترتب على تركه من وقوعك في ضرورة أو تعرضك للسجن الطويل اتكالا على الله ويقينا بوعده أنه سيرزقك من حيث لا تحتسب ويفرج كربك ، مع الصبر على ما يصيبك، فلك ذلك، بل هو الأفضل ما دام قلبك ممتلئا بالتوكل على الله واليقين بوعده والصبر على قضائه، أما مع نقص التوكل واليقين والصبر وصدور الحرج وضيق الصدر فالأخذ برخصة البقاء في هذا العمل إن كنت مضطرا أولى حتى تجد غيره.

ولا علاقة لصحة العبادات وفسادها، بأكل الحرام، بمعنى أن العبد لا يطالب بها، بعد أدائها على وجهها المشروع ولو كان يأكل الحرام، أما قبول هذه العبادات أو عدم قبولها، بمعنى الرضا عنها والإثابة عليها، فلا ريب أن لطيب المطعم أو خبثه أثراً مباشراً في قبول العبادات ولاسيما الدعاء، فإن كان العبد يتحرى أكل الحلال الطيب فإن دعاءه إقرب إلى القبول والإجابة، أما إن تجرأ على أكل الحرام فإنه قد يمنع من الإجابة والقبول. وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم : إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا {المؤمنون: 51}. وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ {البقرة: 172}. ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟. رواه مسلم. قال العلامة ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم: وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله فإنه قال بعد تقريره إن الله لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا {المؤمنون: 51}. وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {البقرة:172}. والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال وبالعمل الصالح، فلما كان الأكل حلالا فالعمل الصالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولا. وما ذكره بعد ذلك من الدعاء وأنه كيف يتقبل مع الحرام فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام... لكن القبول قد يراد به الرضا بالعمل ومدح فاعله والثناء عليه بين الملائكة والمباهاة به، وقد يراد به حصول الثواب والأجر عليه، وقد يراد به سقوط الفرض به من الذمة كما ورد أنه لا تقبل صلاة الآبق ولا المرأة التي زوجها عليها ساخط ولا من أتى كاهنا ولا من شرب خمرا أربعين يوما، والمراد -والله أعلم- نفي القبول بالمعنى الأول أو الثاني. وقال أيضا: أكل الحرام وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجب لعدم إجابة الدعاء. ثم نقل عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام. ونقل أيضا عن وهب بن الورد: لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك حلال أو حرام. وقال الإمام ابن كثير رحمه الله : والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 16601، والفتوى رقم: 12276. ولا يخفى أن محل ما تقدم من عدم القبول هو إذا لم يكن الإنسان مضطرا لأكل الحرام، وإلا فإن الضرورات تبيح المحظورات كما تقدم.

وأما ما ذكرت من اختلاف بعض العلماء في حرمة العمل في البنوك فإن الجماهير الغفيرة من علماء المسلمين لم يختلفوا في ذلك، وإنما قال بعدم حرمتها من لا يعتد بقوله في الخلاف في مثل هذا وهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع، وقد فصلنا القول في ذلك تفصيلا وافيا في عدة فتاوى انظر منها على سبيل المثال الفتاوى ذات الأرقام التالية: 28960 ، 30198 ، 39555.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني