الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أهل الكتاب الذين سمعوا برسولنا ولم يؤمنوا

السؤال

نجد من يدعي أن أهل الكتاب في هذا العصر ليسوا ممن تكلم عنهم القرآن ووصفهم بالكفر، ومنهم من يقول إن من أهل الكتاب من هو ناج يوم القيامة وإن لم يتبع الرسالة المحمدية وبقي على دينه النصراني أو اليهودي، وترد النقاط التالية في هذا الإشكال:
1- هل لمن أشرك بالله عذر يوم القيامة ينجو به من النار؟
2- هل قامت الحجة على أهل الكتاب في عصرنا هذا؟
يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (المائدة 72)، إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ (النساء 48)، هذه الآيات دليل على أن من أشركوا بالله من أهل الكتاب أو غيرهم لا محيد لهم عن الخلود في النار، وأنه لا عذر لهم يوم القيامة، فمن أشرك بالله قديماً وحديثاً ومات على شركه فهو خالد في النار، قامت عليه حجة أم لم تقم، أليس من المعلوم أن:
1- من مات على الشرك قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فهو من أهل النار (مثل والدي الرسول صلى الله عليه و سلم).
2- من مات على الشرك بعد بعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقبل انتصار الإسلام ووصول الرسالة إلى مشارق الأرض ومغاربها فهو من أهل النار.
أما النقطة الثانية وهي قيام الحجة على الكفار وهل عدم قيام الحجة عذر لمن أشرك بالله:
1- يحتج الكثير بقول الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء: 15)، ولكن الله تعالى قال أيضاً: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر:24)، أليس في الآية الثانية دلالة على أن الله بعث رسولاً لكل أمة وأن الآية الأولى هي آية إخبارية فقط، ولكن بالفعل قد بعث الله رسولا لكل قوم؟
2- هل يدخل أهل الكتاب في يومنا هذا في عموم قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (المائدة:19)، وفي عموم الحديث الصحيح: لا يسمع بي يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار أخرجه مسلم.
3- إن البعض يقول إن الحجة لم تقم على أهل الكتاب في هذا العصر وإن الرسالة وإن وصلت إليهم فإنها تصل في غير صورتها الصحيحة النقية، ويقولون إن أغلب الناس لا يعرفون الإسلام، ولم يسمعوا به قط، وقد يسمع به بعضهم سماعاً مشوهاً من أعدائه لا يحمل على قبوله، وهنا نتساءل ألم تكن الرسالة دائماً مشوهة من قبل أعداء الله، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَألْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (فصلت:26) -نحن نسأل ما حكم من أطاع قريشا ولم يستمع لدعوة الرسول ثم مات على شركه- فهل هو ناج لأن الدعوة شوهت عليه، ألم تكن قريش تنهى الناس عن سماع القرآن لأنه سحر، وهل وصلت الرسالة إلى أغلب الفرس والروم الذين قاتلوا المسلمين من غير تشويه، ألم يشوه رؤساء الكفر دعوة الإسلام على قومهم ومنعوها عنهم، فما حكم من قتلهم المسلمون على شركهم في الفتوحات، وأكثرهم في ظني خرجوا إما إجباراً أو دفاعا عن عقيدتهم ومالهم وأرضهم ظناً منهم أن ما هم عليه من الشرك هو الحق لعدم وصول رسالة الإسلام إليه بدون تشويه، فهل لهؤلاء عذر عند الله على ما هم عليه من الشرك؟ أليست هذه حجة على أهل الغرب والشرق الذين يسمعون أخبار المسلمين والعالم الإسلامي ليل نهار، ثم يبقون على الشرك بالله واعتقاد التثليث وغيره من العقائد الفاسدة التي هي شرك بالله، فكيف يقول قائل إنه لا يمكن الحكم بأن الرسالة قد وصلت إلى كل أحد، بل غالب الناس لا يعرفون الإسلام، ولم يسمعوا به قط، وقد يسمع به بعضهم سماعاً مشوهاً من أعدائه لا يحمل على قبوله، ولا تقوم به عليه الحجة، والله أعلم؟
4- الله سبحانه وتعالى يقول: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فمن أشرك بالله في الدنيا فحكمه الكفر في الدنيا والآخرة، أما من لم تصله رسالة في الدنيا ولم يعبد مع الله أحدا أو توقف عن عبادة الله لعدم بلوغه الشرائع، فهذا في ظني من تكلم عنه العلماء في أحكام أهل الفترة على اختلاف العلماء في حقيقة وجودهم، هذا بالنسبة لمن توقف عن عبادة الله، ولكن لم يشرك بالله، ولكن جل من هم في عصرنا هذا لم يتوقفوا عن عبادة الأوثان لحظة واحدة، فكيف نقول إنهم في حكم أهل الفترة وأنهم لم تبلغهم رسالة تقوم بها الحجة، نرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا بالدليل الشرعي الحق في هذه المسألة، نسأل الله أن يسدد خطاكم وأن يجعلكم ذخراً لهذه الأمة؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقد دل القرآن والسنة والإجماع على أن من دان بغير الإسلام فهو كافر، ودينه مردود عليه وهو في الآخرة من الخاسرين، قال الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {آل عمران:85}، وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ {آل عمران:19}.

وجاء النص القاطع بأن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو أشركوا مع الله غيره، أو جحدوا بنبوة نبي من الأنبياء أنهم كفرة، ولا يدفع عنهم الكفر إيمانهم أو التزامهم بكتابتهم، فلو آمنوا حقا بالنبي والكتاب لآمنوا بجميع الأنبياء والرسل، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا {النساء:150-151}.

وإذا تقرر هذا فأهل الكتاب الموجودون في عصرنا يمكن أن نفترض أنهم صنفان (صنف بلغته دعوة الإسلام وسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به، فهؤلاء كفار في الدنيا، مخلدون في النار في الآخرة إن ماتوا على كفرهم، والدليل على ذلك الآيات المذكورة آنفاً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. رواه مسلم.ولا نظن أن أحدا منهم يشذ عن هذا الصنف .

والصنف الثاني هم من لم تبلغهم دعوة الإسلام ولم يسمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء -على فرض وجودهم في هذا الزمان الذي تقدمت فيه وسائل المعرفة والاتصال- قد اختلف العلماء في حكمهم في الآخرة، وأرجح الأقوال أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، كسائر أهل الفترة، فمنهم الموفق الناجي ومنهم الخاسر الموبق.

أما حكمهم في الدنيا فهم كفار باتفاق أهل الإسلام، تجب دعوتهم وإيصال الهدى إليهم، وتجري عليهم أحكام الكفار من أهل الكتاب.

وجميع ما سبق يعد من الأمور المعلومة بالاضطرار من دين الإسلام، فمن أنكر كفر اليهود والنصارى أو شك في ذلك فهو كافر، قال القاضي عياض في كتابه الشفا، في سياق ذكره ما هو كفر بالإجماع: ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو توقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك. انتهى.

وقال في الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة في باب المرتد: أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى واليهود، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم، فهو كافر لأنه مكذب لقول الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

وهذا الجواب كاف في الرد على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني