الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تهافت الزعم بأن الحجاب لمجرد التمييز بين الحرة والأمة

السؤال

فضيله الشيخ حفظكم الله : قرأت في أحد المواقع الإسلامية في المغرب مقالا خبيثا يقول بعدم فرضية الحجاب، وهذا هو النص فنرجو الإفادة : أصبح ديننا الإسلامي الحنيف للأسف مطية سياسية للبعض ممن يريدون تزييف وعي الناس وتخديرهم، وصار الدين الذي ينادي بالعقل ويحض على التفكير والتساؤل متدثرا بالخرافات واللاعقلانية وتحولت هذه العقيدة المتفردة المرنة إلى مجرد شكليات متصلبة من لحية وجلباب وحجاب.. إلخ، يصرخ من خلالها حزب المطوعين الجدد نحن هنا، وها نحن نعيش حاليا قضية سياسية ملتهبة خلقها موضوع من هذه المواضيع الشكلية وهو الحجاب، الذي يعرضه الجميع على أنه الفريضة السادسة للإسلام والذي على أساسه يجيشون جيوش التكفير لفرنسا التي تجاسرت على منع حجاب تلميذات المدارس الحكومية. شيراك لم يكن أول مسؤول يحاول تنظيم ظاهرة الحجاب والزي، ولم يكن أول حاكم يفهم الزي على أنه علامة تمييز، لكن هناك حاكما مسلما فعل مثله ولكنه لم يمنعه عن التلميذات لأن عصره لم يكن يعرف كلمة تلميذات أساسا ولكنه منعه عن الإماء، وهنا يكمن السؤال الذي يخشى الكهنوت الجديد أن يرد عليه: هل الحجاب أو ما يطلقون عليه الحجاب كان قد نزل أساسا لصيانة العفة وحماية الأخلاق كما يردد هؤلاء أم أن المسألة كانت تمييزا لا غير؟. الحقيقة التي يكتمونها عن البسطاء ممن يقرؤون لهم ويسمعونهم في الفضائيات أن الحجاب كان للتمييز فعلا الذي حتمته ظروف المجتمع حينذاك، وهذا ما فهمه الفاروق عمر بن الخطاب والذي أعتقد أنه كصحابي جليل وكرمز للعدل في الإسلام كان يفهم مقاصد الدين أكثر من كل أصحاب الفضيلة هؤلاء، ونبدأ سرد القصة والدلائل من أولها، ونطرح المسكوت عنه في التراث الإسلامي الذي أهال عليه فرسان الكهنوت التراب حتى يظلوا نجوم الساحة وملوك البيزنس وحائزي »السبوبة« من هبرة الموائد والفضائيات ولو كان الثمن عزومة »فتوى« بالكوارع!! نقرأ في كتاب طبقات ابن سعد الجزء السابع ص ١٢٧ أن »عمر بن الخطاب أمير المؤمنين كان يطوف في المدينة فإذا رأى أمة محجبة ضربها بدرته الشهيرة حتى يسقط الحجاب عن رأسها ويقول: فيما الإماء يتشبهن بالحرائر«، وقال أنس مرت بعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع .وروى أبو حفص أن »عمر كان لا يدع أمة تقنع في خلافته«، ويقول كتاب المغني الجزء الأول ص ٣٥١ عن ابن قدامة »إن عمر رضي الله عنه ضرب أمة لآل أنس رآها متقنعة وقال اكشفي رأسك ولا تتشبهي بالحرائر«، وفي سنن البيهقي الجزء الثاني ص ٢٢٧ يروى عن أنس بن مالك »إماء عمر كن يخدمننا كاشفات عن شعورهن«... كل هذه المرويات وغيرها تؤكد على أن عمر بن الخطاب فهم الحجاب على أنه للتمييز بين الحرة والأمة كما تقول آية سورة الأحزاب التي سنعرض لتفسيراتها وأسباب نزولها فيما بعد، ولم نسمع أو نقرأ أن صحابيا واحدا قد عارض تصرف الفاروق، وكان هذا التمييز تمييزا طبقيا يستجيب للتقسيم الحاد الذي كان موجودا حينذاك ولوضع المرأة الأمة المتدني في هذا العصر. الآية التي فهمها عمر بن الخطاب على هذا النحو التمييزي هي الآية رقم ٥٩ من سورة الأحزاب "ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما"، وإذا فهمنا أسباب نزول هذه الآية وتفسيرها سنعرف لماذا فهمها الفاروق مثل هذا الفهم الفطري قبل أن يخترع الفقه وقبل أن تصك العبارات الفقهية الشهيرة مثل أن الحكم يدور مع علته، يقول القرطبي في تفسيره "كانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الاية تتبرز للحاجة (في الصحراء) فيتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمة"، ويخبرنا ابن كثير في تفسيره "كان فساق أهل المدينة يخرجون بالليل فإذا رأوا المرأة عليها جلبابا قالوا: هذه حرة فكفوا عنها وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا: هذه أمة، فوثبوا عليها"، ويؤكد الطبري على نفس المعنى فيقول: يا أيها النبي قل لأزواجك ونساء المؤمنين لايتشبهن بالإماء في لباسهن إن هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن لئلا يتعرض لهن فاسق. وفي تفسير البيضاوي الجزء الرابع ص٣٨٦"ذلك أدنى أن يعرفن يميزن من الإماء والقينات فلا يؤذيهن أهل الريبة بالتعرض لهن"، وفي كتاب الدر المنثور الجزء السادس ص ٦٥٩ يقول:" كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن إذا كان الليل خرجن يقضين حوائجهن وكان رجال يجلسون على الطريق للغزل فأنزل الله ( الآية) حتى تعرف الأمة من الحرة، وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظى رضى الله عنه قال: كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن فإذا قيل له قال كنت أحسبها أمة فأمرهن الله تعالى أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن". بعد قراءتنا لكل هذه التفسيرات التي توضح قصد التمييز في مسألة الحجاب، تحضرني هنا بعض الأسئلة التي أرجو من المعارضين الثائرين المنادين بتكفير كل من ينكر فريضة الحجاب المزعومة والتي يعدونها من ضمن المعلوم من الدين بالضرورة أن يجيبوني على هذه الأسئلة البسيطة والمشروعة: إذا كنتم تتحدثون عن الحجاب كرمز للعفة والطهارة والأخلاق فلماذا اقتصرت كل هذه المعاني النبيلة على الحرة فقط؟! إذا كان الحجاب يدل عندكم على معاني الستر والصلاح ويمنع الفساق من التعرض للمرأة فلماذا تحرم الأمة الغلبانة أو الجارية المسكينة من الحجاب حتى وإن كانت صالحة وعفيفة؟!، أم أنكم تعتبرونها مستباحة وليست لها كرامة وفي مرتبة أقل من الإنسانة؟! أليست الإماء اللاتي بالطبع هن أجمل بديل المكتوب عنهن في كتب التراث، ألسن أكثر فتنة وإثارة للرجال؟، وإذا كان الغرض هو حماية الرجال من الفتنة والحفاظ على الفضيلة أليس من الأولى حجب هاتيك المثيرات بل وتنقيبهن أم أن بوصلة شهوة الرجال وشبقهم مضبوطة على الحرائر فقط؟، وأليس الأولى إصلاح حال هؤلاء الرجال الفساق الذين يثبون على النساء في الصحراء؟! إجابة الأسئلة السابقة تضع حزب الكهنوت الجديد من حماة الفضيلة ومدعي الأخلاق أمام حرج شديد، فهم يريدون نزع قضية الحجاب من كونها مجرد مسألة تستجيب لظرف تاريخي مؤسف انتهى زمانه وانتفت مبرراته وهو ظرف التقسيم الطبقي ما بين حرة وجارية وسادة وعبيد، يريدون إلباسها رداء المطلق وإسباغ صفة الفريضة الدينية عليها، وتأكيدا لفرضية الظرف التاريخي النسبي التي أؤكد عليها أدعوكم إلى قراءة كيف ناقشت كتب الفقه مسألة عورة الأمة التي يحسب الكثيرون أنها محسومة، وسنعرضها باختصار وعلى من يريد التأكد والاستزادة أن يعود للمراجع الفقهية، فالمذهب الحنفي يقول إن عورة الأمة هي عورة الرجل مع ظهرها وبطنها وجنبها، والمذهب المالكي يقصرها على السوأتين والإليتين، والشافعي يقول إنها كالرجل، والحنبلي ما بين السرة والركبة.. إلخ ، حتى العورة مختلف عليها في كتب الفقه وتريدون لشيراك ألا يختلف ياسادة. الحجاب هو أسهل وأوضح رمز سياسي يقاتل من أجله قادة الجماعات الإسلامية السياسية، والحشمة نحن معها ونعرفها منذ زمن طويل في مصر وكانت موجودة بدون الحجاب ويكفي أن ينظر كل منكم إلى الصور الفوتوغرافية للأمهات والخالات والجدات في الخمسينيات والستينيات، هل كن كلهن كافرات؟ وهل هبط علينا الوحي فجأة في السبعينيات أم أن هناك أسبابا اجتماعية واقتصادية أخرى لعبت دورها في انتشاره؟ والمحجبة حرة في أن ترتدي ما تشاء بدون إدانة الأخريات من حاسرات الرأس بأنهن كافرات، وعلى الجميع أن يعرف أن الفضيلة لا تصنعها طرحة وأن الأخلاق تسكن العقول ولا تسكن قطع القماش؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فما ردد هذا الكاتب من شبهات وأباطيل حول الحجاب ينطبق عليه قول الأول:

إن بني ضرجوني بالدم * شنشنة أعرفها من أخزم

ونود قبل الخوض معه في أمر تلك الشبهات أن نذكر بعض الأمور وهي :

1 ـ الأمر الأول : ليس لأحد أن يتكلم في دين الله تعالى بغير علم فالمرجع في كل فن من الفنون إلى أهل الاختصاص فيه، وفي فنون العلم الشرعي أولى، إضافة إلى أنه لا يصح ولا يقبل من أي أحد أن يتكلم في دين الله تعالى بكلام ليس له فيه سلف من هذه الأمة وخاصة إذا تعلق الأمر بأمور كانت موجودة وأشبعت بحثا وتمحيصا .

الأمر الثاني : أن هذا الكاتب جمع بين الجهل والكذب، فجهله بعدم تمييزه بين اصطلاحات العلماء في التفريق بين الفرض والركن، فأركان الإسلام خمسة والمفروض في الإسلام أكثر من أن يحصى ، وأما كذبه فنسبته لدعاة الطهر القول بأن الحجاب ركن سادس من أركان الإسلام، وخانه الجهل فقال فريضة سادسة .

الأمر الثالث : أن الكاتب يحسن الظن ببعض الكفرة الذين منعوا الحجاب مخالفين بذلك ما يدعون أنه من مبادئهم وهو الحرية التي حرمت منها الفتاة المسلمة عندهم ، وفي المقابل يسيء الكاتب الظن بدعاة العفة والطهر فيكيل لهم الشتائم .

الأمر الرابع : نقول لهذا الكاتب الجهول : إن كان القول بفرضية الحجاب تفكيرا متدثرا بالخرافة واللاعقلانية فهل القول بسفور المرأة عين الحكمة والعقل؟! أم أنت معجب بما في مجتمعات السفور من العهر والفجور!! .

ولنأت الآن إلى ما دندن حوله الكاتب هو أمر واحد مفاده أن الحجاب شرع لعلة واحدة وهي التمييز بين الحرائر والإماء، وكانت النتيجة عنده أن الحجاب ليس فريضة شرعية، وإنما للتمييز الذي حتمته ظروف المجتمع حينذاك ، نافيا أن يكون من حكمته أيضا صيانة العفة وحماية الأخلاق، ولنا معه الوقفات التالية :

الوقفة الأولى : أن الحجاب فريضة شرعية وقد دلت على ذلك أدلة شرعية بيناها في الفتوى رقم : 5561 ، وعلة فرض الحجاب كون المرأة أنثى بالغة ، وأما التمييز بين الحرة والأمة فحكمة من الحكم وليس هو العلة، وحكم فرض الحجاب كثيرة ، تراجع في الفتوى رقم : 55578 ، وتراجع في سبب التفريق بين الحرة والأمة الفتوى رقم : 46973 .

الوقفة الثانية : أن من العلماء من ذهب إلى أن الأمة في هذا الحكم كالحرة يجب عليها الستر، بل ومن ذهب إلى التمييز بينها وبين الحرة قال بوجوب الستر عليها إذا كانت جميلة يخشى الافتتان بها ، قال ابن قدامة في المغني : وسوّى بعض أصحابنا بين الحرة والأمة لقوله تعالى : ولا يبدين زينتهن ... الآية ولأن العلة في تحريم النظر الخوف من الفتنة ، والفتنة المخوفة تستوي فيها الحرة والأمة ، فإن الحرية حكم لا يؤثر في الأمر الطبيعي، وقد ذكرنا ما يدل على التخصيص ويوجب الفرق بينهما وإن لم يفترقا فيما ذكر افترقا في الحرمة وفي مشقة الستر؛ لكن إن كان الأمة جميلة يخاف الفتنة بها حرم النظر إليها ، قال أحمد بن حنبل في الأمة إذا كانت جميلة: تنتقب ولا ينظر إلى المملوكة ، كم من نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل. اهـ .

وفي مواهب الجليل : وفي التوضيح : واعلم أنه إذا خشي من الأمة الفتنة وجب الستر لخوف الفتنة لأنه عورة . اهـ .

الوقفة الثالثة : أن أمر العفة والأخلاق مقصد أساسي في تشريع الحجاب، وقد سبق ذكر ذلك في الفتوى المذكورة آنفا والتي بينت حكمة الحجاب. وننقل هنا كلاما يؤيد ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى : قال تعالى : وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ {النور: 60 } فرخص للعجوز التي لا تطمع في النكاح أن تضع ثيابها فلا تلقي عليها جلبابها ولا تحتجب وإن كانت مستثناة من الحرائر لزوال المفسدة الموجودة في غيرها؛ كما استثنى التابعين غير أولي الإربة من الرجال في إظهار الزينة لهم لعدم الشهوة التي تتولد منها الفتنة، وكذلك الأمة إذا كان يخاف منها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب، ووجب غض البصر عنها ومنها . اهـ .

الوقفة الرابعة : أن الترخيص للأمة بوضع الحجاب تخفيف ورحمة لحاجتها لذلك كما سبق، ولا يعني هذا بأي حال اعتبارها مستباحة للفساق كما تساءل الكاتب ، ولكن إذا تعرض لها فاسق فهنالك ما يمكن أن يزجر به ويعزر من قبل الحاكم المسلم .

الوقفة الخامسة : أن من غريب أمر هذا الكاتب عدم أمانته العلمية! فإنه يستدل بأقوال من يرون خلاف ما يرى هو فيأخذ منها ما وافق هواه ويدع ما سوى ذلك، فلم يكن عمر رضي الله عنه -مثلا- يرى أن الحجاب ليس مقصودا منه الطهر والعفاف، فقد روى البخاري عنه أنه قال : قلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب . وما زال علماء الأمة الثقات في مختلف العصور يقولون بوجوب الستر على المرأة المسلمة ولم يقل واحد منهم أن الحجاب لمجرد التمييز بين الحرة والأمة فإذا لم يوجد الإماء فلا شرعية للحجاب .

والله أعلم .

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني