الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

لقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن نارا ستخرج من أرض الحجاز وتسوق الناس إلى أرض المحشر, فما هو مصير باقي دول العالم وأين يكونون وكيف يتم حشرهم وخاصة هناك فواصل مائية هائلة بينها وبين الحجاز؟؟ أم أن هذا الحشر جزئي وخاص بالعرب أم ماذا؟؟وشكرا

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقد صح الحديث في النار التي تخرج من عدن وتحشر الناس، ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة. قال: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات، فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم.

وفي رواية عند مسلم: ...نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس.

وعند أبي داود: وآخر ذلك نار تخرج من اليمن من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر.

وأما النار التي تخرج من الحجاز فلم يذكر فيها الحشر ولكنها من أشراط الساعة، وقد حملها بعض العلماء على النار التي خرجت في القرن السابع الهجري، وقد أخرج الحديث مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى.

قال النووي في شرح مسلم: وهذه النار الخارجة من قعر عدن واليمن هي الحاشرة للناس كما صرح به في الحديث، أما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي بعده: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى، فقد جعلها القاضي عياض حاشرة، قال: ولعلهما ناران يجتمعان لحشر الناس، قال: أو يكون ابتداء خروجها من اليمن ويكون ظهورها وكثرة قوتها بالحجاز، هذا كلام القاضي، وليس في الحديث أن نار الحجاز متعلقة بالحشر بل هي آية من أشراط الساعة مستقلة، وقد خرجت في زماننا نار بالمدينة سنة أربع وخمسين وستمائة وكانت نارا عظيمة جدا من جنب المدينة الشرقي وراء الحرة تواتر العلم بها عند جميع الشام وسائر البلدان وأخبرني من حضرها من أهل المدينة. اهـ

وأما حشر باقي الناس فقد دل عليه ما في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني به جبريل آنفا، قال: ابن سلام ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فجاءت اليهود. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام، قالوا أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم، فقالوا مثل ذلك. فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه، قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله. اهـ

والظاهر أن ابتداء خروج النار من قعر عدن كما في حديث مسلم: فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها، وحينئذ يقع حشرها الناس من المشرق إلى المغرب كما في حديث البخاري، قال ابن حجر في الفتح عند حديث البخاري السابق : قال القرطبي: الحشر الجمع، وهو أربعة، حشران في الدنيا وحشران في الآخرة، فالذي في الدنيا أحدهما المذكور في سورة الحشر في قوله تعالى: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، والثاني: الحشر المذكور في أشراط الساعة الذي أخرجه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رفعه: أن الساعة لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكره، وفي حديث ابن عمر عند أحمد وأبي يعلى مرفوعا: تخرج نار قبل يوم القيامة من حضرموت فتسوق الناس.. الحديث، وفيه: فما تأمرنا؟ قال: عليكم بالشام، وفي لفظ آخر: ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس إلى المحشر. قلت: وفي حديث أنس في مسائل عبد الله بن سلام لما أسلم أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وقد قدمت الإشارة إليه في باب طلوع الشمس من مغربها وأنه مذكور في بدء الخلق، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند الحاكم رفعه: تبعث نار على أهل المشرق فتحشرهم إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا، ويكون لها ما سقط منهم وتخلف، تسوقهم سوق الجمل الكسير. وقد أشكل الجمع بين هذه الأخبار وظهر لي في وجه الجمع أن كونها تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب وذلك أن ابتداء خروجها من قعر عدن فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها، والمراد بقوله: تحشر الناس من المشرق إلى المغرب إرادة تعميم الحشر لا خصوص المشرق والمغرب، أو أنها بعد الانتشار أول ما تحشر أهل المشرق. اهـ

ولا يمنع من انتشار النار في الأرض كلها وجود البحار، فان البحار يوم القيامة تتفجر نارا، كما في إحدى تفسيرات العلماء لقول الله تعالى: وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ {التَّكوير:6}.

قال ابن الجوزي في تفسيره: قوله تعالى: وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ قرأ ابن كثير وأبو عمرو سجرت بتخفيف الجيم، وقرأ الباقون بتشديدها، وفي المعنى ثلاثة أقوال: أحدها أوقدت فاشتعلت نارا قاله علي وابن عباس. والثاني: يبست قاله الحسن. والثالث: ملئت بأن صارت بحرا واحدا وكثر ماؤها قاله ابن السائب والفراء وابن قتيبة. اهـ

وقال الشيخ الشنقيطي في الأضواء في تفسير سورة الطور: وقوله: وَالبَحْرِ المَسْجُورِ فيه وجهان من التفسير للعلماء. أحدهما أن المسجور هو الموقد نارا، قالوا: وسيضطرم البحر يوم القيامة نارا، من هذا المعنى قوله تعالى: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ، الوجه الثاني: هو أن المسجور بمعنى المملوء، لأنه مملوء ماء، ومن إطلاق المسجور على المملوء قول لبيد بن ربيعة في معلقته:

فتوسطا عرض السرى وصدعا * مسجورة متجاورا قلامها

فقوله: مسجورة أي عينا مملوءة ماء، وقول النمر بن تولب العكلي:

إذا شاء طالع مسجورة * ترى حولها النبع والساسما

وهذان الوجهان المذكوران في معنى المسجور هما أيضا في قوله: وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ .

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني