الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أمية النبي محمد صلى الله عليه وسلم.. رؤية شرعية

السؤال

السادة الأفاضل – لدي بعض الأسئلة عن أمية محمد أرجو التفضل والإجابة عليها- مع الشكر
هل كان محمد أميا لنقرأ الآيات التالية عن كلمة أمي وما معناها
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - ال عمران 93
وحسب تفسير القرطبي قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " فَلَمْ يَأْتُوا في هذه الآية يؤكد محمد على أنه قادر على تلاوة الكتاب المقدس ولكن اليهود لم يأتوا
" أن كلمة (أمي، أمم) هي اصطلاح توراتي، يهودي الأصل، كان العبرانيون القدماء يطلقونه للدلالة به على الأفراد والجماعات والشعوب الغير إسرائيلية، أي الغير كتابيين (الأميين).
ففي سورة آل عمران الآية 20 تأتي كلمة الأمي بمعناها الاصطلاحي قال إمام المفسرين الطبري في تفسيره للآية: وقل يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى, والأميين الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب ( أأسلمتم) ؟ .
عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن جعفر بن الزبير: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين} الذين لا كتاب لهم .
والأميين. الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب
نستنج من كل ذلك أن روح القرآن بعيد عن تلك الجهة الاصطلاحية التي يراها القوم كيف والقرآن الكريم لما ذكرهم (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم) فعالج المشكلة بقوله تعالى (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) فيفهم من هذا السياق أن سبب أميتهم عدم معرفتهم بالكتاب وعدم التزكية لنفوسهم ولأجل هذا الداء جاءت الرسالة بذلك الدواء.
وفي سورة الأنعام آية 156 :(إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ. قال الطبري في تفسيره لقوله:{وليقولوا درست}الأنعام 105: اختلفت القراء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء أهل المدينة والكوفة: {وليقولوا درست} يعني قرأت أنت يا محمد; بغير ألف.
ثم في آية اقرأ بسم ---إلخ
(إنه من العبث أن يخاطب الله رسوله بأن يقول له اقرأ بصيغة الأمر ..... وهذا مرده لأسباب ثلاث عملية أولها مرد الطبيعة في الإيمان أن الله أمره إن أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فلو كانت المسألة عدم معرفة لنفذ الأمر بالقراءة
(أن المفترض في القرآن بلاغة اللفظ وإعجاز الإرادة فكان أحق وأجدر لو أن الرسول لا يعرف القراءة أن يخاطبه الله بـ اتل أو قل أو ردد.
( أن آية (اقرأ باسم ربك ) وجواب النبي لجبريل (ما أنا بقارئ ما هو إلا إنكار مباشر وصريح لعلم الله عز وجل ، فعلى اعتبار أن الله علام الغيوب فإنه مما لا يقبله عقل أو منطق أن يخاطب من لا يعرف القراءة والكتابة بأمر اقرأ.
وأخيرا تربى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة جده في كنف عمه أبي طالب. وقد كان حب عمه له أكبر من حبه لولديه وهنا يثور عظيم سؤال :
كيف كان لجعفر الطيار وعلي بن أبي طالب أن يتعلما القراءة والكتابة دون ابن عمهما الذي هو أصغر من الأول وأكبر من الثاني ؟
في وقت نعلم فيه أن التعلم كان ذا شرف مروم وهو ما يؤكد قطع الشك باليقين أن أبا طالب علم ابن أخيه بمعية ولديه.
محمد والتجارة حيث إنه من المعروف أن محمدا قام هو بالتجارة لأجل زوجته وقد نجح في ذلك إلى أبعد الحدود فكيف بشخص أمي أن يقوم على الأقل بالعمليات الحسابية وهو الذي قال إننا أمة لا نقرأ ولا نحسب حيث إن التجارة تتطلب على الأقل للحساب أن لم يكن هناك داع للكتابة
ثم إن هناك حادثة بيعة الرضوان وصلح الحديبية عندما كتب محمد بن عبد الله بدل محمد رسول الله فكيف كتب محمدا إن لم يكن يعرف الكتابة.
ولكم الشكر

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فأهلا ومرحبا بك، ونحن نرحب بأسئلتك ونرى لك عقلا وبحثا ومطالعة نرجو أن لا يسلمك إلا إلى الخير، ونسأل الله أن يشرح صدرك، وأن يوفقك إلى ما يحبه ويرضاه، وننصحك بالانخراط في مجتمع المسلمين وبأن تصحب الشباب الصالح المستقيم منهم فتتعلم منهم أمور دينك وتتحاور معهم وتتناصح معهم وتتواصى معهم بالحق.

ونوصيك كذلك بكثرة استماع أشرطة القرآن الكريم والتلاوة في المصحف بنية الاهتداء، فإن القرآن شفاء لجميع أمراض القلوب، واستماعه بتدبر وحضور قلب من أقوى أسباب الهداية والاستقامة.

ومن أعظم أسباب الهداية الدعاء، فاسأل الله بذل وإلحاح أن يرزقك الهدى والفهم، ومن أهم ما يدعى به الدعاء المأثور في صحيح مسلم: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.

واعلم أن أمية الرسول صلى الله عليه وسلم التي يعنى بها أنه لا يقرأ ولا يكتب ثبتت بالقرآن، وهذا كمال في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته الشريفة، قال الله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ المُبْطِلُونَ {العنكبوت:48} فلو كان صلى الله عليه وسلم يكتب ويقرأ قبل أن يوحى إليه لشك الناس في أمره أو قالوا: إنه تعلم هذه العلوم عن طريق القراءة والكتابة، ولكن هذه العلوم الوافرة والمعارف الزاخرة لا يستطيع عالم قارئ كاتب تحصيلها، وأحرى أمي لا يكتب ولا يقرأ.

فيعلم بذلك أنها وحي من الله تعالى، أوحي به إلى هذا النبي العظيم، وهذا لا شك أبلغ في التحدي والإعجاز، ولهذا قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ {يونس:38}،

وقد ثبت في صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي وردت في الكتب السابقة أنه أمي معلَّم من الله تعالى.... فكان أميا ليعرفه أهل الكتاب الذين يعرفون صفاته الواردة في كتبهم؛ كما قال جل وعلا: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {الأعراف:157}.

وأما قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ {الجمعة:2} ففيه وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله أي وحيه، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب أي يلقنهم إياه، كما كانت الرسل تلقن الأمم الكتاب بالكتابة، ويعلمهم الحكمة التي علمتها الرسل السابقون أممهم، في كل هذه الأوصاف تحدٍ بمعجزة الأمية في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مع كونه أميا قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرسل غير الأميين أممهم لا ينقص عنهم شيئا، فتمحضت الأمية لتكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسى. وفي وصف الأمي بالتلاوة، وتعليم الكتاب والحكمة، وتزكية النفوس، ضرب من محسن الطباق، لأن المتعارف عليه أن هذه مضادة للأمية. أفاده العلامة ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير(13/209).

و قال ابن عاشور أيضا في قوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ المُبْطِلُونَ {العنكبوت:48}: هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ودلالتها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة، وقد ورد الاستدلال بها في مواضع كقوله: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ {الشورى:52} وقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {يونس:16}. ومعنى: مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ.. إنك لم تكن تقرأ كتابا حتى يقول أحد هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل. (ولا تخطه) أي لا تكتب كتابا، ولو كنت لا تتلوه، فالمقصود نفي حالتي التعلم، وهما: التعلم بالقراءة، والتعلم بالكتابة، استقصاء في تحقيق وصف الأمية بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ . أي بل القرآن آيات ليست مما كان يتلى قبل نزوله، بل هو آيات في صدر النبي صلى الله عليه وسلم. فالمراد من (صدور الذين أوتوا العلم) صدر النبي صلى الله عليه وسلم، عَبَّر عنه بالجمع تعظيما له، والعلم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم هو النبوة. التحرير والتنوير(10/12).

وقد اختلف أهل العلم - رحمهم الله - هل تعلم النبي صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة بعد نزول الوحي أو لا؟ فمنهم من قال: إنه تعلم ذلك، فذكر القرطبي في تفسيره نقلا عن النقاش في تفسيره عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلى عليه وسلم حتى كتب. وأسند أيضا حديث أبي كبشة السلولي مضمنه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ صحيفة لـعيينه بن حصن وأخبر بمعناها، وضعف ذلك ابن عطية.

واستدلوا أيضا بما في حديث البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يعتمر أرسل إلى أهل مكة يستأذنهم ليدخل مكة، فاشترطوا عليه أن لا يقيم بها إلا ثلاث ليال ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح ولا يدعو منهم أحدا، قال: فأخذ يكتب الشرط بينهم علي بن أبي طالب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: لو علمنا أنك رسول الله لم نمنعك ولبايعناك؛ ولكن اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال: أنا والله محمد بن عبد الله وأنا والله رسول الله، قال: وكان لا يكتب. قال: فقال لعلي: امح رسول الله، فقال علي: والله لا أمحاه أبدا، قال: فأرنيه، قال: فأراه إياه فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، فلما دخل ومضى الأيام أتوا عليا فقالوا: مر صاحبك فليرتحل، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نعم ثم ارتحل. اهـ

فقال جماعة من العلماء: بجواز ذلك عليه وأنه كتب بيده. منهم السمناني والباجي، ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أميا ولا معارضا لقوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ المُبْطِلُونَ {العنكبوت:48} ولا لقوله: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. بل رأوه زيادة في معجزاته واستظهارا على صدقه وصحة رسالته، وذلك أنه كتب من غير تعلم لكتابة ولا تعاط لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها ابن عبد الله لمن قرأها، فكان ذلك خارقا للعادة، كما أنه عليه السلام علم علم الأولين والآخرين من غير اكتساب ولا تعلم، فكان ذلك أبلغ في معجزاته وأعظم في فضائله ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يحسن أن يكتب. فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال: كتب.

وقال بعض أهل العلم: إنه صلى الله عليه وسلم ما كتب ولا حرفا واحدا، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجى. قالوا: وكتابته مناقضه لكونه أميا لا يكتب، وبكونه أميا في أمة أمية قامت الحجة وأفحم الجاحدون وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق الله تعالى يده فيكتب وتكون آية؟ وإنما الآية ألا يكتب، والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا، وإنما معنى كتب وأخذ القلم: أي أمر من يكتب به من كتابه، وكان من كتبة الوحي بين يديه صلى الله عليه وسلم ستة وعشرون كاتبا. ورجح هذا القول القرطبي في تفسيره.

وقال ابن حجر عند شرح حديث البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يعتمر أرسل إلى أهل مكة يستأذنهم ليدخل مكة، فاشترطوا عليه أن لا يقيم بها إلا ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، ولا يدعو منهم أحدا. قال: فأخذ يكتب الشرط بينهم علي بن أبي طالب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ،فقالوا: لو علمنا أنك رسول الله لم نمنعك ولبايعناك؛ ولكن اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال: أنا والله محمد بن عبد الله وأنا والله رسول الله، قال: وكان لا يكتب. قالك فقال لعلي: امح رسول الله! فقال عليك والله لا أمحاه أبدا. قال: فأرنيه، قال: فأراه إياه فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيدهن فلما دخل ومضى الأيام أتوا عليا فقالوا: مر صاحبك فليرتحل فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم ثم ارتحل.

قال ابن حجر في قوله: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي فادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن يكتب فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة وأن الذي قاله مخالف القرآن حتى قال قائلهم: برئت ممن شرى دنيا بآخرة وقال إن رسول الله قد كتب، فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن بل يؤخذ من مفهوم القرآن لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن فقال: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، وبعد أن تحققت أميته وتقررت بذلك معجزته وأمن الارتياب في ذلك لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة أخرى. وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك منهم شيخه أبو ذر الهروي وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء إفريقية وغيرها، واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجاهد عن عون بن عبد الله قال: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ. قال مجاهد: فذكرته للشعبي فقال: صدق قد سمعت من يذكر ذلك ومن طريق يونس بن ميسرة على أبي كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمس، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة فنظر فيها فقال: قد كتب لك بما أمر لك. قال يونس: فنرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بعد ما أنزل عليه. قال عياض: وردت آثار تدل على معرفة حروف الخط وحسن تصويرها كقوله لكاتبه: ضع القلم على أذنك فإنه أذكر لك. وقوله لمعاوية: ألق الدواة وحرف القلم وأقم الباء وفرق السين ولا تعور الميم. وقوله: لا تمد بسم الله. قال: وهذا وان لم يثبت أنه كتب فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة فإنه أوتي علم كل شيء. وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث وعن قصة الحديبية بأن القصة واحدة والكاتب فيها علي، وقد صرح في حديث المسور بأن عليا هو الذي كتب فيحمل على أن النكتة في قوله: فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب.. لبيان أن قوله أرني إياها أنه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك فكتب فيه حذف تقديره فمحاها فأعادها لعلي فكتب. وبهذا جزم ابن التين وأطلق كتب بمعنى أمر بالكتابة وهو كثير، كقوله: كتب إلى قيصر وكتب إلى كسرى وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالما بالكتابة ويخرج عن كونه أميا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصور بعض الكلمات ويحسن وضعها بيده وخصوصا الأسماء ولا يخرج بذلك عن كونه أميا ككثير من الملوك، ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها فخرج المكتوب على وفق المراد فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا. وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمة الأصول من الأشاعرة وتبعه ابن الجوزي وتعقب ذلك السهيلي وغيره بأن هذا وإن كان ممكنا ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أميا لا يكتب وهي الآية التي قامت بها الحجة وأفحم الجاحد وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة وقال المعاند كان يحسن يكتب لكنه كان يكتم ذلك. قال السهيلي: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا. والحق أن معنى قوله فكتب أي أمر عليا أن يكتب انتهى. وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة وتثبت كونه غير أمي نظر كبير. والله أعلم. اهـ

وأما القراءة والمدارسة فلا يلزم منها كون الشخص يقرأ مكتوبا؛ إذ تطلق القراءة على التلاوة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب. رواه البخاري. وفي رواية لمسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن.

وفي حديث أحمد وابن حبان: إذا استقبلت القبلة فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت. صححه الأرناؤوط.

وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ثم قام طويلا قريبا مما ركع ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من قيامه.

ومن المعلوم أن القارئ في الصلاة لا يقرأ من كتاب ولا سيما في ظلام الليل، وأما الدراسة فهي لا تستلزم أن تكون من كتاب بل إن المدارسة التي رغب فيها الشارع في حديث مسلم: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده.

إنما يراد بها تلاوة بعضهم على بعض وتحاورهم فيما يستفاد بواسطة التدبر من الآيات المتلوة، قال النووي في شرح مسلم: وفي هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، وراجع في الكلام على آية العلق الفتوى رقم: 11398.

وأما حب أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم واحتمال تعليمه له الكتابة ونجاحه صلى الله عليه وسلم في التجارة فهو احتمال لا يمكن أن تُردَّ به النصوص الصريحة في الوحيين.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني