الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الرضا بقضاء الله وخطورة اليأس من رحمته

السؤال

قرأت مرة أنه لا يوجد عدل مطلق في الدنيا، وإذا كان هذا صحيحا كبف يعامل من مهدت له الدنيا وأوتي من كل شيء واتقى الله فيها، ومن قدر الله عليه الشقاء فى الدنيا من كل النواحي وأغلقت عليه أبواب الرجاء وحتى الوسيلة الوحيدة بين العبد وربه وهي الدعاء مقطوعة بسبب أكل الحرام مع أنه لا دخل لي به إلا أنني ابنة في أسرة تربت من الحرام وأحاول جهدي أن أتقي الله، ولكن للأسف قدر الله أنه لا يقبل إلا من الطيبين، ولا أخفى أنني كثيرا ما يتملكني اليأس وأعاتب نفسي لماذا لم أنه حياتي وأنا صغيرة؟ على الأقل لم أكن أفقه كثيرا فى ديني مع أني مند صغري وأنا أعيش فى المشاكل، والآن أصبح الأمر أكثر صعوبة لأنني أصبحت أدرك أن معاناتى تعدت الدنيا إلى الآخرة؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالدنيا ليست ميزانا للتفاضل بين الناس عند الله، وحصول زهرتها لا يدل على رضاه سبحانه، كما أن الحرمان منها لا يدل على سخطه عز وجل، فقد قال تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ*وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ*كَلَّا.. {الفجر:17 }.

وإقامة العدل المطلق لا يكون في الدنيا، وإنما يكون في الآخرة، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ. {الأنبياء:47}. وقال عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ. {إبراهيم 42}.

قال ابن كثير: أي: لا تحسبه إذ أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم، لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عدا. اهـ.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. رواه مسلم.

وقد سبق التنبيه على ذلك في الفتويين: 120102 ، 124756.

ثم إن الله تعالى لا يؤاخذ العبد إلا بما كسب يداه، فكل امرئ بما كسب رهين. قال تعالى: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. {الأنعام : 164}. وقال: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى. {فاطر : 18}. وقال: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. {الإسراء: 15}.

فمن تربى في أسرة عاصية خبيثة الكسب، فتغذى وكبر من مال حرام، فلا ذنب له في ذلك، وبالتالي فإنه لا يأثم عليه، بل العاصي نفسه والذي سعى في تحصيل ذلك المال وأنفق عليه منه هو المسؤول أمام الله. فإذا كنت كبرت وكان مال والدك أو ولي أمرك كله من الحرام، فلا يحل لك تناول شيء منه إلا إذا لم تجدي غيره، فلك عندئذ أن تتناولي منه قدر الضروروة فقط، وراجعي الفتوى رقم: 17296.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن المال الحرام بسبب طريقة كسبه لا لذاته يكون محرما على مكتسبه فقط، وأما من اكتسبه منه بطريق مباحة فلا يحرم عليه.

قال الشيخ ابن عثيمين في تفسير سورة البقرة: الخبيث لكسبه مثل المأخوذ عن طريق الغش أو عن طريق الربا أو عن طريق الكذب وما أشبه ذلك؛ وهذا محرم على مكتسبه وليس محرما على غيره إذا اكتسبه منه بطريق مباح؛ ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل اليهود مع أنهم كانوا يأكلون السحت ويأخذون الربا، فدل ذلك على أنه لا يحرم على غير الكاسب. اهـ.

وبذلك تعلمين أن شكواك من اليأس والقنوط وما ترتب عليه من ترك الدعاء وغيره، إنما هو من وسوسة الشيطان ليصدك عما ينفعك في دنياك وآخرتك، فإنه لا خلاف بين أهل العلم في أن اللَّه لا يكلف أحدًا إلا بفعل يقع باختياره، ولا يكلف أحدًا إلا بما في وسعه وطاقته . كما قال تعالى: لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا. { البقرة: 286}. وقال سبحانه: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. {المائدة : 6}.

فلا يجب على المسلم إلا أن يبذل ما يستطيعه فحسب. كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. { التغابن: 16}.

وقال صلى الله عليه وسلم: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. رواه البخاري ومسلم. وراجعي الفتوى رقم: 23472 .

فعليك أختي الكريمة أن تبذلي ما في وسعك في طاعة الله، ولا تيأسي من رحمته، بل سليه من فضله، وألحي عليه في الدعاء أن يهيئ لك من أمرك رشدا. واعلمي أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يظلم الناس شيئا، وأن اليأس من رحمته من أعظم الكبائر، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.{يوسف: 87}.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني