الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

خطوات عملية للقضاء على البطالة

السؤال

أنا طالبة أعد رسالة ماجستير عن البطالة في مجتمع الإمارات دراسة مقارنة، وقد أوردت في رسالتي مبحثًا عن آراء وفتاوى الفقهاء، والمفكرين المعاصرين، ومن له علم شرعي، وأود من حضرتكم أن تخبروني عن رأيكم في أحكام البطالة، وهل لها أحكام خاصة؟ وما نصائحكم للشباب الذين يعانون المر في ظل الاقتصاديات الحديثة، دون مراعاة من قبل هؤلاء لحال الشعوب التي أهلكتها النظم الرأسمالية، وغيرها، وتركت شباب هذه الأمة يصارعون دوامة البطالة، ودفعهم للكسب الحرام، والسخط على مجتمعاتهم؟ وما هي نصيحتكم للمسؤولين، والمعنيين بالأمر؟ جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعـد:

فإن البطالة مشكلة من مشاكل المجتمعات، التي لا بد من تعاون المجتمع على حلها، وننصح الشباب، والصالحين للعمل من أفراد الأمة بالحرص على التكسب، بحسب ما يتوفر لهم، مع الحرص على الحلال، فقد رغّب النبي صلى الله عليه وسلم في التكسب، والسعي، والتحرك، واستغناء المرء عن الآخرين، وأكله من كسب يده، وهذا هو هدي الأنبياء، والصحابة، والعلماء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على عمل اليد: ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده. رواه البخاري. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أي الكسب أطيب؟ فقال: "عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور". رواه أحمد، والحاكم، وصححه الألباني. وقال: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم. رواه الترمذي، وقال فيه: حسن صحيح. وقال: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا. رواه الترمذي، والحاكم، وصححه الألباني.

وقد رغّب صلى الله عليه وسلم في الاستغناء عن الناس، والقناعة، وعدم الإشراف وسؤال الآخرين، ودعاء الله، والالتجاء إليه، والاستعانة به، فقد كان يبايع أصحابه على أن لا يسألوا الناس، كما في حديث مسلم، وقد قال: قد أفلح من أسلم، وزرق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه. رواه مسلم. وقال: لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحدًا، فيعطيه، أو يمنعه. رواه البخاري. وقال: من نزلت به فاقة، فأنزلها بالناس، لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة، فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل، أو آجل. رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع.

وقد كان أصحاب النبي يتاجرون، ويزرعون، ويؤجرون أنفسهم، وكان من سلف هذه الأمة من يمتهن المهن، ويتكسب بها؛ حتى اشتهر بعضهم بنسبته لمهنته، أو مكان عمله، كالبزار، والخواص، والدارقطني، والدباغ، والحداد، والبقال، وكان من الصحابة من يؤجر نفسه عند الحاجة بشيء من التمر، ثم يرجع بعدما يحقق مهمته، فقد روى الطبراني في الأوسط عن كعب بن عجرة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيته متغيرًا! فقلت: بأبي أنت، ما لي أراك متغيرًا؟ قال: ما دخل في جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث. قال: فذهبت، فإذا بيهودي يسقي إبلًا له، فسقيت له على كل دلو بتمرة، فجمعت تمرًا، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من أين لك يا كعب؟ فأخبرته... الحديث. والحديث حسنه الألباني في صحيح الترغيب.

فهذا الحديث يدل على عدم استنكاف الصحابة عما تيسر من الأعمال، مهما قلّ إنتاجها، وعلى أخذهم ما يحتاجونه عن طريق التكسب، لا عن طريق السؤال.

ثم من الأمور المهمة التي يتعين الاعتناء بها: أن يحرص العاملون على تنمية الإيمان، والأمانة عندهم؛ فإن الإيمان، والأعمال الصالحة، من أعظم الوسائل لتحقيق طموحات الإنسان، كما أن الأمانة، والقدرة على الأعمال، من أعظم الوسائل المساعدة لقبول أصحاب رؤوس الأموال معاملة العمال، كما قالت بنت الرجل الصالح لأبيها في شأن موسى: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ {القصص:26}.

وعليهم أن يستشعروا مسؤولية العباد في إعمار الأرض، وأهمية الاستفادة مما خلق فيها، وسخر فيها من الأشياء النافعة، فقد قال الله تعالى: هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا {هود:61}، قال ابن كثير في التفسير: أي: جعلكم عمارًا تعمرونها، وتستغلونها. وقال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا {البقرة:29}.

كما يتعين كذلك أن يحرصوا على الكسب الحلال، والبعد عن الحرام، مهما كانت الأحوال؛ ففي الحديث: إن روح القدس نفث في روعي: أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته. رواه أبو نعيم، والطبراني، والبزار، وصححه الألباني.

وننصح كذلك من حملهم الله تعالى مسؤولية أمور هذه الأمة: أن يستشعروا أنهم مسؤولون بين يدي الله تعالى عما استرعاهم؛ فعليهم أن يهتموا بحال أصحاب البطالة، وحال المحتاجين من العجزة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: كلكم راع، ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسؤول عن رعيته. رواه البخاري. وقال: إن الله سائل كل راع عما استرعاه. رواه الترمذي، وله شاهد في الصحيحين.

وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستشعر هذه المسؤولية دائمًا، ويذكّر عماله بها، فقد روى ابن سعد في الطبقات عنه أنه قال: لو مات جمل ضياعًا على شط الفرات، لخشيت أن يسألني الله عنه.

وقد شكت امرأة من المسلمين إلى عمر -رضي الله عنه- عدم إعطاء ساعيه محمد بن مسلمة لها من الزكاة، فدعا محمد بن مسلمة، وقال له: كيف أنت قائل إذا سألك الله عز وجل عن هذه؟ فدمعت عينا محمد، ثم أعطى عمر المرأة حمل ثلاثة جمال من القوت، وأمر محمد أن يعطيها حقها لهذا العام، والعام الماضي. والقصة مبسوطة في كتاب الأموال لأبي عبيد.

فعلى المسؤولين أن يحرصوا على إيجاد فرص العمل للصالحين للعمل، ويغنوهم بما أمكن من الأعمال عن الحاجة للناس، فقد روى أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي في السنن، والحارث في مسنده، والطحاوي في شرح معاني الآثار قصة الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فأمره بالتكسب، وعلمه مهنة الاحتطاب، وقد نص أهل العلم على أن المحترف الذي تنقصه آلات حرفته، تشترى له الآلات من أموال الزكاة، أو من بيت المال.

فلو أن ولاة الأمور علموا الشباب المهن، ووفروا لهم الآلات، وأماكن العمل؛ لساعد هذا كثيرًا في حل مشكلة البطالة، ولا سيما إذا علمنا ما يتوفر في البلاد الإسلامية من الطاقة البشرية، والأراضي الصالحة للزراعة، والمعادن الهامة التي يمكن أن يوفر بها المسلمون الأغذية، والصناعات للعالم، لو حصل بينهم التكافل الاجتماعي، واستثمر أصحاب رؤوس الأموال أموالهم في استصلاح الأراضي الزراعية، واستخراج المعادن، ووظفوا طاقات العمال فيها.

ولو أنه جمعت أموال الزكاة، والثروات العامة من طرف أمناء، لا يريدون شيئًا لأنفسهم، ووزعت على مستحقيها بعدالة، لاستغنى كثير من الناس، أو كلهم، كما حصل في عهد السلف الأول، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن، وأمره بأخذ زكاة أغنيائهم، وإعطائها لفقرائهم، ولم يمض إلا زمن يسير حتى لم يعد هناك من يقبل الصدقة.

وكان الخلفاء يأمرون عمالهم بتوزيع الزكوات في البلاد التي جبيت بها، فيوزعونها، ويرجع العمال ولا شيء معهم، ونقل أبو عبيد في كتاب الأموال الإجماع على أن أهل كل بلد أحق بصدقاتهم، ما دام فيهم محتاج، وإن أتى ذلك على جميع صدقاتهم؛ حتى يرجع الساعي ولا شيء معه، ونقل في ذلك قصصًا عن معاذ، وطاوس أن الواحد منهم كان يمشي ساعيًا، فيقسم الصدقات في فقراء البلد، ثم يرجع ولا شيء معه، ثم ذكر أبو عبيد أن معاذًا بعث بثلث صدقة أهل اليمن إلى عمر، فأنكر عليه عمر! وقال: لم أبعثك جابيًا، ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس، فتردها على فقرائهم، فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء حتى وأنا أجد أحدًا يأخذه مني، فلما كان العام الثاني، بعث إليه شطر الصدقة، فتراجعا بمثل ذلك، فلما كان العام الثالث، بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل، فقال معاذ: ما وجدت أحدًا يأخذ مني شيئًا.

وقد تجلى بهذه القصة، وغيرها مما حصل أيام عمر بن عبد العزيز صدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ليأتين الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب، ثم لا يجد أحدًا يأخذها منه. رواه البخاري، ومسلم.

وقد كان عمال عمر بن عبد العزيز يبحثون عن فقراء يعطونهم الزكاة، فلا يجدونهم، فيشترون بها العبيد، ويعتقونهم، وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن عمر -رحمه الله- اجتهد في مدة ولايته، فرد المظالم، وصرف إلى كل ذي حق حقه، وكان مناديه ينادي في كل يوم ينادي: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغني كلًّا من هؤلاء.

وقد وزع بالعراق الأعطيات على الناس من بيت المال، ثم بقي شيء، فزوج منه العزاب، وقضى الديون، ثم بقي شيء، فأمر أن يعان منه أهل الذمة، قال أبو عبيد في كتاب الأموال: كتب عمر بن العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق: أن أخرج للناس أعطياتهم، فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقي في بيت المال مال! فكتب إليه: أن انظر كل من ادّان في غير سفه، ولا سرف، فاقضِ عنه، فكتب: إني قد قضيت عنهم، وبقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن انظر كل بكر ليس له مال، فشاء أن تزوجه، فزوجه، وأصدق عنه، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن انظر من كانت عليه جزية، فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه.

ثم إنا ننصح وجهاء هذه الأمة، وأصحاب رؤوس الأموال بالسعي فيما يستطيعون به مساعدة العاطلين عن العمل، فعلى الوجيه أن يشفع لهم، ويمشي معهم؛ حتى يفتح لهم الأبواب التي لا يمكنهم فتحها بأنفسهم، وأن يحتسب الثواب عند الله في ذلك، وعلى الغني أن يقرضهم من ماله، وأن يوظفهم في مؤسسته، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته. رواه مسلم. وقال: اشفعوا تؤجروا. رواه البخاري. وقال: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا. ولأن أمشي مع أخ في حاجة، أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة- شهرًا. رواه الأصبهاني، وابن أبي الدنيا، وحسنه الألباني.

وقد رغب الشارع في الإحسان إلى الناس، والقرض الحسن، فقال تعالى: وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {البقرة:195}.

وفي الحديث القدسي: يا عبدي، أنفق أنفق عليك. رواه البخاري، ومسلم. وفي الحديث: كل قرض صدقة. رواه الطبراني، وحسن المنذري، والألباني سنده.

فعلى هؤلاء أن يسعوا في مساعدة إخوانهم: من قرضهم الأموال ليعملوا بها، وتكوين دورات مهنية في ميادين الأعمال، وتعليم الحِرَف، واللغات، ومساعدتهم بالشفاعة لهم في إيصال طلباتهم إلى المسؤولين، وإقناعهم بضرورة توظيفهم.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني