الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تفصيل القول في حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن

السؤال

ورد في السلسله الصحيحة للألباني حديث عن حرمة أخذ الأجر عن تعليم القرآن فما صحته وهل الأجر خبيث؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن الألباني ذكر في الصحيحة حديثين في هذا الموضوع وهما حديث: من أخذ على تعليم القرآن قوساً، قلده الله قوساً من نار يوم القيامة. وحديث عبادة بن الصامت قال: علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوساً فقلت ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه فأتيته فقلت: يا رسول الله رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله، قال: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها. وذكر أحاديث شواهد لهذا المعنى يعضد بعضها بعضاً فأفادت عنده الثبوت وكان يفتي بحرمة الأجرة على تعليم القرآن محتجاً بهذه الأحاديث وبأن الأصل في العبادات أن تكون خالصة، ولكنه عارضه أهل العلم بما يفيد من النصوص إباحة أخذ العوض مقابل تعليم القرآن ، والمسألة مختلف فيها عند أهل العلم على أقوال:

فذهبت طائفة من العلماء إلى منعه مطلقاً وقصر حديث الإباحة على الرقية أو الدواء وهذا هو مذهب الحنفية وهو معتمد مذهب الحنابلة، وذهبت طائفة أخرى إلى التفصيل فقالت: لا تجوز الإجارة على تعليم القرآن ولا على الأذان، ولا يقع ذلك إلا قربة لفاعله، ولكن يجوز أخذ رزق من بيت المال، أو من الوقف على عمل يتعدى نفعه، كتعليم القرآن ونحوه، لأنه من المصالح التي تفيد المسلمين، وليس المأخوذ بعوض، بل هو رزق للإعانة على الطاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة، ولا يقدح في الإخلاص وإلا لما استحقت الغنائم، وأسلاب القتلى وبعضهم يقول بجوازه من غير اشتراط وعدمه إن اشترط وفرق قوم بين من تعين عليه ومن لم يتعين عليه وعن بعضهم أنه يباح للمحتاج دون غيره.

وهناك طائفة ثالثة تقول: بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم، لأنه استئجار على عمل معلوم بعوض معلوم وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية والظاهرية وهو رواية عن أحمد وبه يفتي متأخرو الحنفية، وهذا المذهب الأخير هو الأرجح عند كثير من المحققين ولا سيما عند الحاجة والتفرغ ومنهم معاصرون خالفوا الألباني في المسألة ويدل له عدة أدلة منها ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياماً طويلاً، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئاً، فقال: ما أجد شيئاً، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد، فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم، سورة كذا وكذا يسميها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد زوجتكما بما معك من القرآن. وفي رواية: قد ملكتكما بما معك من القرآن. فهذا الرجل أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضاً عن صداقها، وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز ويؤيد ذلك ما ثبت في بعض الروايات في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: انطلق فقد زوجتكما فعلمها من القرآن. وفي رواية لأبي داود: علمها عشرين آية وهي امرأتك. ويدل له أيضاً ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيه لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله. والحديث وإن كان سببه هو الرقية، إلا أن اللفظ هنا عام، وقد نص العلماء على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال الصنعاني في سبل السلام عند شرح الحديث الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله. قال: وقد عارضه ما أخرجه أبو داود من حديث عبادة بن الصامت، ولفظه: علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوساً فقلت ليست لي بمال فأرمي عليها في سبيل الله، فأتيته فقلت: يا رسول الله رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست لي بمال فأرمي عليها في سبيل الله، فقال: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها. فاختلف العلماء في العمل بالحديثين، فذهب الجمهور ومالك والشافعي إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن سواء كان المتعلم صغيراً أو كبيراً ولو تعين تعليمه على المعلم عملاً بحديث ابن عباس ويؤيده ما يأتي في النكاح من جعله صلى الله عليه وسلم تعليم الرجل لامرأته القرآن مهراً لها، قالوا: وحديث عبادة لا يعارض حديث ابن عباس إذ حديث ابن عباس صحيح وحديث عبادة في رواية مغيرة بن زياد مختلف فيه واستنكر أحمد حديثه وفيه الأسود بن ثعلبة فيه مقال فلا يعارض الحديث الثابت. قالوا: ولو صح فإنه محمول على أن عبادة كان متبرعاً بالإحسان وبالتعليم غير قاصد لأخذ الأجرة فحذره صلى الله عليه وسلم من إبطال أجره وتوعده، وفي أخذ الأجرة من أهل الصفة بخصوصهم كراهة ودناءة لأنهم ناس فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ المال منهم مكروه، وذهب الهادوية والحنفية وغيرهما إلى تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن مستدلين بحديث عبادة وفيه ما عرفت فيه قريباً نعم استطرد البخاري ذكر أخذ الأجرة على الرقية في هذا الباب فأخرج من حديث أبي سعيد في رقية بعض الصحابة لبعض العرب وأنه لم يرقه حتى شرط عليه قطيعاً من غنم فتفل عليه وقرأ عليه (الحمد لله رب العالمين)، فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة أي علة، فأوفاه ما شرط ولما ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهماً.

وذكر البخاري لهذه القصة في هذا الباب وإن لم تكن من الأجرة على التعليم وإنما فيها دلالة على جواز أخذ العوض في مقابلة قراءة القرآن لتأييد جواز أخذ الأجرة على قراءة القرآن تعليماً أو غيره إذ لا فرق بين قراءته للتعليم وقراءته للطب. انتهى.

وقال صاحب عون المعبود في شرح حديث عبادة السابق: قال الخطابي اختلف قوم من العلماء في معنى هذا الحديث وتأويله فذهب بعضهم إلى ظاهره فرأوا أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن غير مباح وإليه ذهب الزهري وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه، وقال طائفة لا بأس به ما لم يشترط وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي وأباح ذلك آخرون وهو مذهب عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور واحتجوا بحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي خطب المرأة فلم يجد لها مهراً زوجتكما على ما معك من القرآن وتأولوا حديث عبادة على أنه كان تبرع به ونوى الاحتساب فيه ولم يكن قصده وقت التعليم إلى طلب عوض ونفع فحذره النبي صلى الله عليه وسلم إبطال أجره وتوعده عليه وكان سبيل عبادة في هذا سبيل من رد ضالة لرجل أو استخرج له متاعاً قد غرق في بحر تبرعاً وحسبة فليس له أن يأخذ عليه عوضاً ولو أنه طلب لذلك أجرة قبل أن يفعله حسبة كان ذلك جائزاً، وأهل الصفة قوم فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ المال منهم مكروه ودفعه إليهم مستحب، وقال بعض العلماء أخذ الأجرة على تعليم القرآن له حالات فإذا كان في المسلمين غيره ممن يقوم به حل له أخذ الأجرة عليه، لأن فرض ذلك لا يتعين عليه، وإذا كان في حال أو في موضع لا يقوم به غيره لم تحل له الأجرة وعلى هذا يؤول اختلاف الأخبار فيه. انتهى.

وقال في فتح الودود: قال السيوطي: أخذ بظاهر هذا الحديث قوم وتأوله آخرون وقالوا هو معارض بحديث زوجتكها على ما معك من القرآن وحديث ابن عباس إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله... انتهى.

وقال الإمام النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن: وأما أخذ الأجرة على تعليم القرآن فقد اختلف العلماء فيه فحكى الإمام أبو سليمان الخطابي منع أخذ الأجرة عليه من جماعة من العلماء منهم الزهري وأبو حنيفة وعن جماعة أنه يجوز إن لم يشترطه وهو قول الحسن البصري والشعبي وابن سيرين وذهب عطاء ومالك والشافعي وآخرون إلى جوازها إن شارطه واستأجره إجارة صحيحة وقد جاء بالجواز الأحاديث الصحيحة واحتج من منعها بحديث عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة القرآن فأهدى له قوسا فقال: له النبي إن سرك أن تطوق بها طوقاً من نار فاقبلها وهو حديث مشهور رواه أبو داود وغيره وبآثار كثيرة عن السلف وأجاب المجوزون عن حديث عبادة بجوابين أحدهما أن في إسناده مقالاً والثاني أنه كان تبرع بتعليمه فلم يستحق شيئاً ثم أهدي إليه على سبيل العوض فلم يجز له الأخذ بخلاف من يعقد معه إجارة قبل التعليم. والله أعلم. انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: تنازع العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه وفيه ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد وغيره أعدلها أنه يباح للمحتاج، قال أحمد: أجرة التعليم خير من جوائز السلطان وجوائز السلطان خير من صلة الإخوان.

وأصول الشريعة كلها مبنية على هذا الأصل أنه يفرق في المنهيات بين المحتاج وغيره كما في المأمورات ولهذا أبيحت المحرمات عند الضرورة لا سيما إذا قدر أنه يعدل عن ذلك إلى سؤال الناس، فالمسألة أشد تحريماً ولهذا قال العلماء يجب أداء الواجبات وإن لم تحصل إلا بالشبهات كما ذكر أبو طالب وأبو حامد أن الإمام أحمد سأله رجل قال: إن ابنا لي مات وعليه دين وله ديون اكره تقاضيها فقال له الإمام أحمد أتدع ذمة ابنك مرتهنة؟ يقول قضاء الدين واجب وترك الشبهة لأداء الواجب هو المأمور، ولهذا اتفق العلماء على أنه يرزق الحاكم وأمثاله عند الحاجة وتنازعوا في الرزق عند عدم الحاجة وأصل ذلك في كتاب الله في قوله في ولي اليتيم ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف وهكذا يقال في نظائر هذا إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما... انتهى.

وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: ما حكم أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن الكريم للأطفال الصغار؟ وإذا أفتيتم بالجواز فهل للمعلم ثواب عند الله بعد أخذه للأجرة الشهرية؟ فأجابوا: تعلم القرآن الكريم وتعليمه من أفضل القرب إلى الله جل وعلا، إذا صلحت النية، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعلم القرآن وتعليمه بقوله: خيركم من تعلم القرآن وعلمه. وأخذ معلمي القرآن الأجرة على تعليمه لا ينافي حصول الثواب والأجر من الله جل وعلا إذا خلصت النية، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. انتهى.

وقال الشنقيطي رحمه الله في تفسيره لسورة هود: قوله تعالى: وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه أخبر قومه أنه لا يسألهم مالاً في مقابلة ما جاءهم به من الوحي والهدى، بل يبذل لهم ذلك الخير العظيم مجاناً من غير أخذ أجرة في مقابله، وبين في آيات كثيرة: أن ذلك هو شأن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، كقوله في سبأ عن نبينا صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}، وقوله فيه أيضاً في آخر سورة ص: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ }، وقوله في الطور والقلم: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} وقوله في الفرقان: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}، وقوله في الأنعام: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}، وقوله عن هود في سورة هود: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي}، وقوله في الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقوله تعالى في رسل القرية المذكورة في يس: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا...}، ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة: أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجاناً من غير أخذ عوض على ذلك، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام.

ويعتضد ذلك بأحاديث تدل على نحوه فمن ذلك ما رواه ابن ماجه والبيهقي والروياني في مسنده عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: علمت رجلاً القرآن، فأهدى لي قوساً فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوساً من نار. فرددتها... فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن تعليم القرآن والمسائل الدينية لا يجوز أخذ الأجرة عليه، وممن قال بهذا: الإمام أحمد في إحدى الروايتين، وأبو حنيفة والضحاك بن قيس وعطاء. وكره الزهري وإسحاق تعليم القرآن بأجر. وقال عبد الله بن شقيق: هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت.

وممن كره أجرة التعليم مع الشرط: الحسن وابن سيرين، وطاوس، والشعبي، والنخعي، قاله في المغني. وقال: إن ظاهر كلام الإمام أحمد جواز أخذ المعلم ما أعطيه من غير شرط وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز الأجرة على تعليم القرآن، وهو مذهب مالك والشافعي. وممن رخص في أجور المعلمين: أبو قلابة، وأبو ثور، وابن المنذر. ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة، ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى بأمانات الناس، التعليم أحب إلي.

وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم، قاله ابن قدامة في المغني. واحتج أهل هذا القول بأدلة منها ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياماً طويلاً، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال. ما عندي إلا إزاري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك. فالتمس شيئاً، فقال: ما أجد شيئاً، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد، فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم، سورة كذا وكذا يسميها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد زوجتكها بما معك من القرآن. وفي رواية: قد ملكتكها بما معك من القرآن. فقالوا: هذا الرجل أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضاً عن صداقها، وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز، وما رد به بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم زوجه إياها بغير صداق إكراماً له لحفظه ذلك المقدار من القرآن، ولم يجعل التعليم صداقاً لها -مردود بما ثبت في بعض الروايات في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن. وفي رواية لأبي داود: علمها عشرين آية وهي امرأتك.

واحتجوا أيضاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله. قالوا: الحديث وإن كان وارداً في الجعل على الرقيا بكتاب الله فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. واحتمال الفرق بين الجعل على الرقية وبين الأجرة على التعليم ظاهر.

ثم ختم رحمه الله بقوله: قال مقيده -عفا الله عنه- الذي يظهر لي والله تعالى أعلم، أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية فالأولى له ألا يأخذ عوضاً على تعليم القرآن، والعقائد، والحلال والحرام للأدلة الماضية، وإن دعته الحاجة أخذ بقدر الضرورة من بيت مال المسلمين، لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم لا من قبيل الأجرة.. والأولى لمن أغناه الله أن يتعفف عن أخذ شيء في مقابل التعليم للقرآن والعقائد والحلال والحرام. والعلم عند الله تعالى. انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في بعض فتاواه: وأما أخذ الأجرة على إقراء القرآن أي على تعليم القرآن فهذا مختلف فيه والراجح أنه جائز لأن الإنسان يأخذه على تعبه وعمله لا على قراءته القرآن وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن أفضل ما أخذتم عليه أجراً أو قال أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجل الذي لم يجد مهراً، قال: زوجتكها بما معك من القرآن أي يعلمها ما معه من القرآن فتبين بهذا أن الاستئجار لقراءة القرآن محرم وفيه إثم وليس فيه أجر ولا ينتفع به الميت وأما الأجرة على تعليم القرآن فالصحيح أنها جائزة ولا بأس بها. انتهى.

وقال الشيخ محمد مختار الشنقيطي حفظه الله في جواب لسؤال عن حكم أخذ المال على تدريس العلوم الشرعية: مذهب المحققين من العلماء رحمهم الله وهو الذي اختاره بعض الأئمة ومنهم الإمام ابن جرير الطبري، والحافظ ابن حجر وغيرهما من المحققين أن الإنسان إذا قصد بعلمه الآخرة، ثم أخذ أجراً على ذلك العلم بسبب عدم تمكنه من طلب الرزق فذلك لا يقدح في الإخلاص، ما دام أن مقصوده هو تعليم العلم، ونفع أبناء المسلمين، فلا يقدح في الإخلاص وجود حظ من الدنيا، وقد دل على هذا القول الصحيح دليل الكتاب والسنة، أما دليل الكتاب فإن الله عز وجل يقول في كتابه: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}. وهذه الآية نزلت في أهل بدر، فأخبر الله أنهم كانوا يتمنون العير بقوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}، فهم خرجوا للعير، فلما واجهوا القتال صدقوا مع الله، فلم يقدح في قتالهم وجهادهم وجود حظ أو قصد حظ الدنيا من تلك العير، ومن الأدلة على صحة هذا القول قول الحق تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}، فإنها نزلت -كما صح- في أقوام يريدون الحج والتجارة، فالحج عبادة والتجارة دنيا، فلم يقدح في إرادة الآخرة وجود حظ الدنيا، كما دل على صحة هذا القول دليل السنة الصحيح، فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام قال قبل القتال: من قتل قتيلاً فله سلبه. وهذا القول قاله لترغيب الناس في القتال، فأعطى على القتال الذي يراد به وجه الله حظاً من الدنيا، قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنه لا يقدح في الإخلاص وجود حظ من الدنيا إذا لم يكن هو مقصود العبد، فإذا كان مقصودك ما عند الله عز وجل فلا يؤثر فيه وجود حظ من الدنيا، وقد جاء في حديث أبي محذورة رضي الله عنه أنه قال: ألقى النبي صلى الله عليه وسلم علي الأذان، فلما فرغت، ألقى إلي صرة من فضة. قالوا: في هذا دليل أيضاً على أن حظ الدنيا لا يؤثر إذا لم يكن هو مقصود العبد. ومن مجموع هذه الأدلة خلص هؤلاء العلماء إلى القول بأنه ينظر في الإنسان، فإذا كان مقصوده من التعليم نفع أبناء المسلمين وإسداء الخير إليهم ودلهم على طاعة الله ومرضاته ثم حصل بعد ذلك أجر أو راتب أو غير ذلك ولم يكن هو مقصوده الأساس، فإن ذلك لا يقدح في إخلاصه. والله تعالى أعلم. انتهى.

وقال الدكتور الزحيلي وهو حنفي: أجاز العلماء بالاتفاق الاستئجار على تعليم اللغة والأدب و الحساب والخط والفقه والحديث ونحوها، وبناء المساجد والقناطر والثغور والرباطات، لتعارف الناس وللحاجة أو الضرورة الداعية لذلك، وإلا تعطلت المصالح العامة وقال الإمامان مالك والشافعي: تجوز الإجارة على تعليم القرآن، لأنه استئجار لعمل معلوم بعوض معلوم، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم (زوج رجلاً بما معه من القرآن)، فجاز جعل القرآن عوضاً، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، وقد ثبت (أن أبا سعيد الخدري رقى رجلاً بفاتحة الكتاب على جُعل فبرئ، وأخذ أصحابه الجعل فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، وسألوه فقال: لعمري من أكل برقية باطل (أي كلام باطل ) فقد أكلت برقية حق ، كلوا واضربوا لي معكم بسهم ) ثم لإتى المتأخرون من الفقهاء الآخرين كالحنفية وبعض الحنابلة بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وقراءته، والإمامة والأذان وسائر الطاعات من صلاة وصوم وحج، قياساً على الأفعال غير الواجبة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر حج صحابي عن غيره، ونظراً لانقطاع عطايا المعلمين وأرباب الشعائر الدينية من بيت المال، فلو اشتغل هؤلاء بالاكتساب من زراعة أو تجارة أو صناعة، لزم ضياع القرآن وإهمال تلك الشعائر.

قال بعض الحنابلة: ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرة، بل رزق للإعانة على الطاعة، فمن عمل منهم لله أثيب، هذا مع العلم بأن فتوى هؤلاء المتأخرين مخالفة لما هو مقرر في أصل المذهب الحنفي الذي يشترط لصحة الإجارة ألا يكون العمل المأجور له فرضاً ولا واجباً على الأجير قبل الإجارة، فهذه الطاعات عبادات له، والعبادة لا تؤخذ أجرة عليها، وقد روي أن عثمان بن أبي العاص قال: (إن آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن أتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً). انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني