الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

توضيحات حول قصة قذف المغيرة بن شعبة

السؤال

قرأت قصة قذف المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - في سير أعلام النبلاء فاختلط عليّ الأمر, فهل الأحاديث الواردة صحيحة؟
أرجو بيان الموضوع لي.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالقصة قد رويت بأسانيد صحيحة, ولكن ليس فيها مغمز على الصحابي أبدًا؛ لأنه لم يقم دليل على أنه فعل الفاحشة, وإنما بقي الأمر مجرد دعوى.

وهذه القصة قد روى أصلها البخاري معلقة بصيغة الجزم " باب شهادة القاذف والسارق والزاني, وقول الله تعالى: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا", وجلد عمر أبا بكرة, وشبل بن معبد, ونافعًا بقذف المغيرة ثم استتابهم, وقال: "من تاب قبلت شهادته" ورواها عبد الرزاق في مصنفه ج8/ص362 " أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا محمد بن مسلم قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة عن ابن المسيب قال: شهد على المغيرة أربعة بالزنى فنكل زياد فحد عمر الثلاثة, ثم سألهم أن يتوبوا فتاب اثنان فقبلت شهادتهما, وأبى أبو بكرة أن يتوب, فكانت لا تجوز شهادته, وكان قد عاد مثل النصل من العبادة حتى مات", وكذلك الشافعي في الأم بأسانيد صحيحة.

جاء في فتح الباري ج5/ص256 " أخرجه عمر بن شبة في أخبار البصرة من هذا الوجه, وساق قصة المغيرة هذه من طرق كثيرة, محصلها أن المغيرة بن شعبة كان أمير البصرة لعمر فاتهمه أبو بكرة وهو نفيع الثقفي الصحابي المشهور, وكان أبو بكرة ونافع بن الحارث بن كلدة الثقفي وهو معدود في الصحابة وشبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة بن معبد بن عتيبة بن الحارث البجلي وهو معدود في المخضرمين وزياد بن عبيد الذي كان بعد ذلك يقال له زياد بن أبي سفيان إخوة من أم, أمهم سمية مولاة الحارث بن كلدة, فاجتمعوا جميعًا فرأوا المغيرة متبطن المرأة, وكان يقال لها الرقطاء أم جميل بنت عمرو بن الأفقم الهلالية, وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن عوف الجشمي, فرحلوا إلى عمر فشكوه فعزله, وولى أبا موسى الأشعري, وأحضر المغيرة فشهد عليه الثلاثة بالزنا, وأما زياد فلم يبت الشهادة, وقال رأيت منظرًا قبيحًا, وما أدري أخالطها أم لا, فأمر عمر بجلد الثلاثة حد القذف, وقال ما قال, وأخرج القصة الطبراني في ترجمة شبل بن معبد, والبيهقي من رواية أبي عثمان النهدي أنه شاهد ذلك عند عمر, وإسناده صحيح, ورواه الحاكم في المستدرك من طريق عبد العزيز بن أبي بكرة مطولًا, وفيها فقال زياد: رأيتهما في لحاف, وسمعت نفسًا عاليًا, ولا أدري ما وراء ذلك".
وجاء في السير أيضًا (3/ 28) " وقال أبو عتاب الدلال: حدثنا أبو كعب صاحب الحرير، عن عبد العزيز بن أبي بكرة قال: كنا جلوسًا وأبو بكرة وأخوه نافع وشبل فجاء المغيرة، فسلم على أبي بكرة، فقال: أيها الامير! ما أخرجك من دار الإمارة ؟ قال: أتحدث إليكم, قال: بل تبعث إلى من تشاء, ثم دخل، فأتى باب أم جميل العشية، فدخل, فقال أبو بكرة: ليس على هذا صبر, وقال لغلام: ارتق غرفتي، فانظر من الكوة, فانطلق، فنظر وجاء، فقال: وجدتهما في لحاف، فقال للقوم: قوموا معي، فقاموا، فنظر أبو بكرة فاسترجع، ثم قال لأخيه: انظر، فنظر، فقال: رأيت الزنى محضًا؟ قال: وكتب إلى عمر بما رأى، فأتاه أمر فظيع, فبعث على البصرة أبا موسى، وأتوا عمر، فشهدوا حتى قدموا زيادًا، فقال: رأيتهما في لحاف واحد، وسمعت نفسًا عاليًا ولا أدري ما وراءه, فكبر عمر، وضرب القوم إلا زيادًا", وأنت ترى تكبير عمر هنا فرحًا ببطلان هذا الأمر عن الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة.
وقد وردت القصة بسياقات مختلفة وأسانيدها ضعيفة مما جعل بعض أهل العلم ينكر القصة سندًا ومتنًا, ومنها ما ورد في سير أعلام النبلاء (3/ 27)" عبد الوهاب بن عطاء: أخبرنا سعيد، عن قتادة، أن أبا بكرة، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، شهدوا على المغيرة أنهم رأوه يولجه ويخرجه، وكان زياد رابعهم، وهو الذي أفسد عليهم, فأما الثلاثة فشهدوا، فقال أبو بكرة: والله لكأني بأير جدري في فخذها, فقال عمر حين رأى زيادًا: إني لأرى غلامًا لسنًا، لا يقول إلا حقًا، ولم يكن ليكتمني، فقال: لم أر ما قالوا، لكني رأيت ريبة، وسمعت نفسًا عاليًا, فجلدهم عمر، وخلاه, وهو زياد بن أبيه. ذكر القصة سيف بن عمر، وأبو حذيفة النجاري مطولة بلا سند (6).

قال معلق الكتاب (6) سيف بن عمر: هو كالواقدي متروك، وانظر روايته في " تاريخ الطبري ": 4 / 70", وأنت ترى أن هذه الرواية ولفظها منكر, ولكنها وغيرها لا تشكل على صحة القصة في الأصل كما أوردها الحافظ ابن حجر والذهبي وغيرهم, وعليه فمن مجموع هذه الروايات يتبين أن الأمر كان محض دعوى, ولم يقم عليها البرهان, وهو شهادة أربعة من الشهود كما أمر الله تعالى في مثل هذه القضية, ومجرد الدعوى بدون برهان لا تنقص من مرتبة الصحابي, ولا تنزل من درجته, إلا أن البعض قد رأى أن القصة لها وجه آخر" وحاصل القصة أنه حصل شبهة فقد اشتبهت عليهم المرأة, وقد جاءت القصة مطولة فيها توضيح الحادثة.

قال أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن ونص الحادثة ما رواه أبو جعفر قال: كان المغيرة بن شعبة يباغي أبا بكرة وينافره، وكانا بالبصرة متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين متقابلتين في داريهما، في كل واحدة منهما كوة تقابل الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبت ريح، ففتحت باب الكوة فقام أبو بكرة ليصفقه، فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب الكوة في مشربته, وهو بين رجلي امرأة قد توسطها، فقال للنفر: قوموا فانظروا، ثم اشهدوا؛ فقاموا فنظروا، فقالوا: ومن هذه؟ فقال هذه أم جميل بنت الأرقم, وكانت أم جميل غاشية للمغيرة والأمراء والأشراف، وكان بعض النساء يفعل ذلك في زمانها، فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة، فقال: لا تصل بنا، فكتبوا إلى عمر بذلك، فبعث عمر إلى أبي موسى واستعمله، وقال له: إني أبعثك إلى أرض قد باض فيها الشيطان وفرخ؛ فالزم ما تعرف، ولا تبدل فيبدل الله بك, فقال: يا أمير المؤمنين؛ أعني بعدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار؛ فإني وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به, قال: فاستعن بمن أحببت, فاستعان بتسعة وعشرين رجلًا، منهم: أنس بن مالك، وعمران بن حصين، وهشام بن عامر, ثم خرج أبو موسى، حتى أناخ بالبصرة، وبلغ المغيرة إقباله، فقال: والله ما جاء أبو موسى زائرًا ولا تاجرًا، ولكنه جاء أميرًا, ثم دخل عليه أبو موسى فدفع إلى المغيرة كتاب عمر - رضي الله عنه - وفيه: أما بعد: فإنه قد بلغني أمر عظيم، فبعثت أبا موسى أميرًا؛ فسلم إليه ما في يديك، والعجل, فأهدى المغيرة لأبي موسى وليدة من وليدات الطائف تدعى عقيلة، وقال له: إني قد رضيتها لك, وكانت فارهة, وارتحل المغيرة, وأبو بكرة, ونافع بن كلدة، وزياد، وشبل بن معبد، حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة لعمر: يا أمير المؤمنين؛ سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني مستقبلهم أو مستدبرهم، وكيف رأوا المرأة، وهل عرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إليّ على امرأتي، والله ما أتيت إلا زوجتي، وكانت تشبهها, فبدأ بأبي بكرة، فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل، وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة, قال: وكيف رأيتهما؟ قال: مستدبرهما, قال: وكيف استثبت رأسها؟ قال: تحاملت حتى رأيتها, ثم دعا بشبل بن معبد، فشهد بمثل ذلك، وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة؛ ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، ولكنه قال: رأيته جالسًا بين رجلي امرأة, فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفين، وسمعت حفزانًا شديدًا, قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا, قال: فهل تعرف المرأة؟ قال: لا، ولكن أشبهها, قال له: تنح, وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد، وقرأ: { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون}, قال المغيرة: اشفني من الأعبد يا أمير المؤمنين, فقال له: اسكت، أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك, ورد عمر شهادة أبي بكرة، وكان يقول له: تب أقبل شهادتك، فيأبى حتى كتب عهده عند موته: هذا ما عهد به أبو بكرة نفيع بن الحارث، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن المغيرة بن شعبة زنى بجارية بني فلان, وحمد الله عمر حين لم يفضح المغيرة, وروي أن الثلاثة لما أدوا الشهادة على المغيرة، وتقدم زياد آخرهم قال له عمر قبل أن يشهد: إني لأراك حسن الوجه, وإني لأرجو ألا يفضح الله على يديك رجلًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, فقال ما قال, وكان ذلك أول ظهور زياد، فليته وقف على ذلك، وما زاد، ولكنه استمر حتى ختم الحال بغاية الفساد, وكان ذلك من عمر قضاء ظاهرًا في رد شهادة القذفة، إذا لم تتم شهادتهم؛ وفي قبولها بعد التوبة, وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف والأصول" اهـ.

ثم ينبغي العلم أنه لو ثبت هذا الأمر على الصحابي فهو بشر وليس بمعصوم فلا مشكلة إذا تاب من ذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون, وقد وقع من بعض الصحابة بعض المعاصي التي تابوا منها, وأقيم الحد على بعضهم, كماعز بن مالك وغيره في حق الزنا, ومن سرقت فقطعت يدها, وهكذا, بل ربما يكون الإنسان بعد التوبة أحسن منه حالًا قبلها, قال تعالى:" وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" {الفرقان:68- 70}, وجاء في صحيح مسلم وغيره بعد ذكر رجم الصحابي الجليل ماعز قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس، فسلم ثم جلس، فقال: «استغفروا لماعز بن مالك»، قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم»... الحديث.

وفي صحيح مسلم أيضا عن عمران بن حصين، أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبت حدًّا، فأقمه عليّ، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها»، ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ فقال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟».

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني