الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مشكلة أسرية.. نصائح وحلول وتوصيات

السؤال

شاب مسلم وأسرة مسلمة عريقة تواجه مشكلة خطيرة يرجون منكم إرشاداتكم القيمة لمساعدتهم للخروج من المأزق الذي وقعوا فيه.. وإليكم تفاصيل المشكلة:
شاب مسلم بلغ من العمر 26 عامًا، عضو نشط في الحركة الإسلامية للشباب، بل هو رئيس فرع القرية، وهو معروف بتلاوته العطرة، فيؤم الناس أحيانًا في المسجد، ووالده عضو في الحركة الإسلامية ومسؤول عن عدد من المؤسسات التعليمية الإسلامية. أما جده المتوفى - رحمه الله - فكان عالمًا معروفًا، ترأس الحركة الإسلامية لفترة طويلة، وله مؤلفات دينية، وهو مؤسس عدد من المؤسسات الدينية والتعليمية، جميع أعضاء هذه الأسرة يشاركون في العمل الإسلامي، كلٌ حسب إمكاناته وظروفه.
قبل سنة تقريبًا كتب الشاب المذكور رسالة إلى والده يطالب فيها تزويجه بفتاة كانت تعمل خادمة في بيت جدته لمدة سنتين، وذلك أثناء دراستها التمريض في مستشفى قريبة من بيت الجدة. دهش الوالد من مضمون الرسالة؛ لأنه لم يتوقع من ولده هذا التصرف، كما رأى أن هذه الفتاة لا تليق لولده زوجًا، لأسباب عديدة، ومع ذلك استدعى ولده واستفسر منه حقيقة الأمر وتفاصيله، فعلم أنه بدأ يحبها منذ سنة، وكان يلتقي بها في ستر الليل في الغرفة الخلفية التي كانت تبيت فيها في بيت الجدة. كما علم أنه كان يزورها في بيتها ويبيت معها بإذن والديها، وكان والدها يوصلها إلى المكان الذي يطلبه. يقول الولد بأنه وقع في أخطاء، ولكنه لم يباشرها. فحاول الوالد إقناعه بأن فتاة وأسرة في هذا المستوى الدنيء من الثقافة، لا تليق لإقامة علاقة زوجية معه ومع أسرته. سأله الوالد، كما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تسمح بهذا لأختك أو لأمك؟ فقال: لا. فقال الوالد: هذا هو الفرق بيننا وبينهم، يمكن أن يقع منك ومنها الخطأ، ولكن كان من الواجب على والديها منعكما من الاختلاط والخلوة؛ إنهم لا يهتمون بهذا، لأن مثل هذا الأمر يحدث أحيانًا بين هؤلاء العمال الذين يعملون في المزارع، وخاصة في منطقتهم، حيث هرب عدد من الفتيات مع شبان مسلمين وغير مسلمين. يقول الولد: إن أهلها متدينون نسبيًّا، عندما نقارنهم بأهالي المنطقة، واثنين من إخوانها يدرسون في دروس المساجد.
قال له الوالد: إذا كانت رغبتك في زواج بنت فقيرة أو يتيمة فلا مانع من ذلك، بشرط: أن تكون متدينة، مثقفة، متعلمة، بغض النظر عن حالتها الاقتصادية. لم يقتنع الولد بقول الوالد، فأصرَّ على موقفه وقال: إنه قد أحبها ولابد من الزواج منها.
حاول الوالد معرفة السبب الذي حث الولد على هذا التصرف فأجاب بأنه تعرض في صغره لضربات والده، وأنه أسكنه في القسم الداخلي أثناء دراسته الثانوية، وبالتالي لم يحس الحب من والده ووالدته، فلما وجد من الفتاة حبًّا وقع فيها فأحبها. فأجابه الوالد: بأن الضرب كان إجراءً تأديبيًّا يتخذه كل الآباء، وكان إسكانه في القسم الداخلي لمصلحته والتربية الإسلامية التي نالها، كانت من القسم الداخلي، وبداية علاقته بالحركة الطلابية أيضًا كانت من القسم الداخلي. يقول الولد: أنه تعلم النفاق أيضًا من هذا المكان. وأوضح الوالد أيضًا: أنه ووالدته كانا يعتنيان به عناية خاصة، طيلة قبل إلحاقه بالقسم، وبَعْدَه لبعض الأمراض التي كانت تلاحقه، حتى أنهما تركا البلدة وسكنا بجوار القسم الداخلي لمدة ستة أشهر للعناية به. يقول الولد: إن الوالدين لم يكونا يردان على رسالته ولم يزوراه باستمرار. فقال الوالد: وإذا سلمنا فرضًا أننا أخطأنا، أهكذا تكون مقابلته؟ لم يجب الولد شيئًا، وكأنه يَكِنُّ في نفسه بغضًا شديدًا نحو الوالد والوالدة.
درس الوالد عن أسرة الفتاة أكثر فأكثر، فعلم أن شقيقة أمها امرأة خبيثة، تبيع جسدها (يقر الولد بهذا)، وأخت الفتاة حاولت أن تهرب مع رجل أجنبي، ووالدتها فصلت من المزرعة التي كانت تعمل فيها لسوء لسانها.. وإلخ.
فعرض الوالد هذه الأمور على الولد، فرد الولد: أليس من واجبنا محاولة إصلاح الفتاة؟ أليست لها توبة إذا كانت مخطئة في الماضي؟ وإذا تابت ألا نقبلها؟ وقال خالي يقال عنه أيضًا: أنه يعمل الخبائث، أليست عائلتنا إذن مثل عائلتهم؟
قال الوالد: نعم لها توبة، ويجب إصلاحها، ولكن مع ذلك لا تصلح لك زوجًا، ولا تليق لأسرتنا؛ لأن البغاء مشهور عن شقيقة أمها. أما ما تقول عن خالك فإن كان صحيحًا فإنه شيء فردي يعمل في السر، وليس البغاء العلني كذلك، ولا مقارنة المستوى الديني لعائلتنا وعائلتها. إضافة إلى أن الجدة وأسرتنا حاولوا كثيرًا في إصلاحها أثناء مكوثها معهم، وكانوا يطلبون منها الصلاة معهم، ولكنها لم تكن تطيعهم، كما رفضت أن تلبس الحجاب بصورة تغطي جميع شعرها، بل كانت تبدي غضبها عند النصح، إضافة إلى أن آثار البيئة السيئة التي عاشت فيها ستؤثر سلبًا في تربية الأولاد وعلاقتها مع أفراد أسرتنا.
يقول الولد: إن رفضها للصلاة ربما يكون بسبب أنها خرافية، وأهلنا إصلاحيون. أما الحجاب فإن أسلوب نصح الجدة والخالة كان شديدًا، وهي الآن قبلت نصيحتي.
لما فشلت هذه المحاولات، أخبر الوالد زوجته عن موضوع ابنهما، فلم تتحمل الخبر، فوقعت مغميًّا عليها، في حضور الولد، وأثَّر ذلك في نفسها، وأخذناها إلى المستشفى، فتراجع عن نية الزواج من الفتاة، وقال أيضًا: إنه لن ينكح أية فتاة أخرى.
وبعد شهرين رجع إلى موقفه الأول، فمرة أخرى وقعت الأم مغميًّا عليها، وأصبح حالها لا يستقيم إلا على الأدوية النفسية، واستمر ذلك لمدة 9 أشهر، وقالت للولد: إنه لن يراها باقية على قيد الحياة لو استمر هكذا.
خلال هذه الفترة دار الحديث معه مرات لإقناعه، فقال مرة: إنه سيحاول إصلاحها. وقال أحيانًا إنه سيوقف العلاقة معها. ولكن للأسف بدأ يتصل بها من فترة إلى أخرى. هنا تدخل عمه وعمته، وتحدثا معه بأسلوب شديد، فخرج من البيت غاضبًا، وسافر إلى بلدة الفتاة، وتزوجها، وأقام في بيتها يومين. يقول الولد: إنه لم يباشرها في هذه الفترة أيضًا.
فاستدعاه أمير الجماعة الإسلامية، وتحدث معه كما تحدث معه أعضاء أسرته الكبار، وحاول إقناعه بالنتائج السيئة التي يمكن أن تترتب على هذا الزواج، فقيل له: كيف تأمن على نفسها ووالديها أنهم لا يسمحون إذا جاءها أجنبي أجمل منك وأغنى منك أن تبيت معه كما سمحوا لك؟! كيف تحاسبها على تصرف خاطئ في المستقبل - لا سمح الله - وأنت قد أخطأت معها بهذا التصرف؟ وإذا رزقت منها بذرية وأخطأوا - لا سمح الله - كيف تحاسبهم؟ ألا تخاف أنهم سيحتجون بتصرفاتك الخاطئة؟ فيسألونك: ألا يمكن إصلاحها؟
وأثناء الحديث قال له أحد المحدثين: بأن الزواج بدون إذن الوالدين خطأ، فإذا أصررت على هذا الزواج فمباشرتك معها تعتبر زنًا، أتحب أن تكون معها في نار جهنم؟ وذكروا له مطالبة عمر رضي الله عن ابنه عبد الله بطلاق زوجته. وتحدثتْ معه الجدة والخالة، فأثَّر ذلك في نفس الولد، وقال: إنه سيطلقها، ولا يريد أن يقع في النار، وتاب من الأخطاء التي وقعت منه، وكتب الطلاق بيده. إلاَّ أنه بدأ يشك في عدم صحة النكاح، واستفسر عنه بدون عرض موضوعه بتفاصيله، وحالة الفتاة وأسرتها، والأخطاء التي وقع فيها. فعرف أن الزواج بدون رضا الوالدين لا يكون باطلاً، بل هو نكاح صحيح. فبدأ يتراجع عن موقف الطلاق، كما بدأ يتصل بها مرة أخرى، ويقول: إنه لا يمكن أن يعيش بدونها.
وفي هذه الحالة تفكر الأسرة في مقاطعته في حالة إصراره وزواجه منها، وذلك تأديبًا له، ولاعتبارات عديدة، وهي:
- كانت علاقتها مع الجدة والأولاد الصغار علاقة خشنة أثناء مكوثها خادمة في بيت الجدة، ولم تسمع لنصحهم. ستكون لهذا الأمر آثاره السلبية في العلاقات والحياة الزوجية المستقبلية، علمًا بأن الجدة قد بلغت سن الخامسة والسبعين، ولا تريد الأسرة أن تكون هناك مشاكل نفسية للجدة.
- هناك حوالي 25 شابًا في الأسرة، كلهم في نفس عمر - هذا الولد - تقريبًا. فإذا أقرت الأسرة بهذا الزواج الذي لا شك أن مقدماته كلها خاطئة شرعًا، سيكون في ذلك أسوة سيئة لهؤلاء الشباب والصغار الذين يأتون بعدهم.
- كثير من العلاقات الزوجية التي تأسست على العلاقات الغرامية انتهت بالفشل، وفي القرية نفسها أمثلة لذلك، وتخاف الأسرة أن هذه النتيجة قد تلحق بهذه العلاقة الزوجية أيضًا. وخاصة أنها قد بدأت تصرفاتها الخشنة معه عندما علمت بنية طلاقه، حيث هددت بأنها لن تبقى على قيد الحياة وأنها ستحرق شهاداته الدراسية التي أودعها في حوزتها. ولهذا ترى الأسرة أن هذه الفتاة ليست كفئًا له، لا في الدين، ولا في العلم، ولا في الثقافة، ولا أي شيء، فاحتمالات الفشل أكبر بكثير من احتمالات النجاح.
في هذه الظروف نرجو منكم الإجابة على الأسئلة التالية، وإيضاح الموقف الصحيح الذي ينبغي اتخاذه:
(1) هل نكاحه صحيح بعد معرفته الجيدة عن الحالة السيئة للفتاة وأسرتها، واعترافه بالأخطاء التي ارتكبها قبل النكاح، والمخاطر المحتملة أمام حياتهما الزوجية، ومع علمه برفض والديه لهذه العلاقة لأسباب شرعية؟
(2) ما الموقف المطلوب من الولد في الوقت الحاضر؟ هل يواصل العلاقة التي لا يرضى بها والداه وجدته وأعضاء أسرته الآخرون وكثير من أصدقائه وأقاربه ومعارفه الصالحين؟ ماذا يعمل إذا قال إنه سيصلح حالها.
(3) أي العلاقتين أولى: علاقته بوالديه وبرهما، أم علاقة الحب؟ علمًا بأن الجدة تقول: إنها لن ترضى عنه إلاَّ إذا تركها وأصلح حاله. وأن أمه أوقفت تناول الأدوية بعد قراره طلاق الفتاة، وهي لم تعلم حتى الآن أنه تراجع عن هذا القرار، وإذا علمت سترجع حالتها الصحية إلى ما كانت عليه؟
(4) وإذا طلقها هل يكون عليه وزر بسبب الوعود التي وعدها قبل النكاح بأنه سيتزوجها ولو رفضت الأسرة؟
(5) في حالة إصراره على مواصلة العلاقة معها هل يكون هناك وزر على الأسرة في حالة مقاطعتها له؟ وما حدود هذه المقاطعة؟
(6) ما الموقف الشرعي السليم للخروج من هذا المأزق؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فنسأل الله أن يوفق الجميع لطاعته ومرضاته، وأن يجمع شمل هذه الأسرة الكريمة، وأن يصرف عنها السوء. وننبه إلى أننا نجيب السائل على قدر سؤاله، وبناء على المعطيات التي يذكرها، ولا يمكننا غير ذلك، وإن فرض أنه دلّس أو كتم شيئًا يلزمه ذكره، فضرر ذلك راجع إليه هو. وأما ما سألتم عنه فجوابه كالتالي: أولاً: لا يشترط إذن الوالدين لصحة النكاح، فمن نكح امرأة في حضور وليها وشاهدي عدل من المسلمين صحَّ نكاحه، ولو رفض أبواه أو أحدهما. إلا أن قولكم عن الفتاة إنها لم تطع من نصحها في شأن الصلاة، وقول الولد: إن رفضها للصلاة ربما يكون بسبب أنها خرافية، يترتب عليه فساد عقد النكاح عند من يرى كفر تارك الصلاة، وهو القول المأثور عن جماعة من الصحابة والأئمة، وبه أفتى عدد من علماء العصر، كالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله. وعليه فيجب فسخ هذا النكاح، ولا مانع من تجديد العقد في حال توبتها وأدائها للصلاة. ثانيًا: إذا كان الابن قد كتب الطلاق بيده أو تلفظ به بلسانه، كقوله: هي طالق أو طلقتها، فقد وقع الطلاق، إلا أن يكون أدى ذلك بلفظ المستقبل، نحو: سأطلقها، فهذا وعد بالطلاق وليس طلاقًا. ثالثًا: إذا كان الطلاق قد وقع، ولم تحصل رجعة، أو كان العقد فاسدًا لتركها الصلاة، فإنه يتأكد في حق الابن أن يترك هذه الفتاة، استجابة لرغبة والديه وأهله، ومراعاة لما ذكر من الصفات السيئة الذميمة في المرأة وأهلها، فإن قومًا يسمحون لرجل أجنبي أن يبيت مع ابنتهم في بيتهم، هم قوم سوء، لا يرجى من مصاهرتهم إلا العار والشنار، وإن الفتاة التي تسمح بذلك وترضى به، لا تؤتمن على عرضها، وليس ذلك إغلاقًا لباب الصلاح والتوبة، لكن المقدم على الزواج لا ينبغي له أن يخاطر بالزواج من فتاة هذا حالها، وما يدريه فربما تكون سبقت لها علاقة مشابهة مع غيره، يضاف إلى ذلك سوء البيئة التي نشأت فيها، وتركها للصلاة وخلعها للحجاب. وبالجملة ليس في هذه الفتاة ما يدعو إلى نكاحها، لا نسب ولا دين ولا مال، فلم يبق إلا الجمال - إن وجد - ومآل الجمال إلى تغير أو زوال، وربما كان إعجاب الابن بها نزوة عارضة وشهوة جامحة، مع تزيين الشيطان له ذلك، كما قال سبحانه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]. وإن من تمام توبته أن يقلع عن هذه الفتاة التي شاركته في الإثم والمعصية طوال هذه المدة. وقد دلت التجارب المعيشة على أن زواجًا كهذا مصيره الفشل، لا سيما مع كراهة الأسرة والأصدقاء له، فإن الرجل إذا قضى وطره، وتبدت له الحقائق، وظهر له ما كان مستورًا من عيوب المرأة، ونظر في حال أسرتها وسوئهم، ورأى كراهية والديه وإخوانه لامرأته، عاد ذلك عليه بالهم والضيق ونكد العيش، ودعاه ذلك لمفارقة المرأة، ولا شك أن مفارقته لها الآن قبل الدخول خير له ولها، فربما علقت منه بولد فكان ذلك مزيد شقاء وتعاسة للجميع. ولينظر الابن إلى ما سببه عمله من مرض أمه وحزنها وألمها، وليعلم أن حق الأم عظيم، وأنه مهما قدم من برها فلن يفي بما تستحقه، ولو بدر منها نحو ابنها ما بدر مما يراه تقصيرًا وتفريطاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد الجهاد والخروج في جيش المسلمين: هل لك أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجلها. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وفي رواية: ويحك الزم رجلها فَثَمَّ الجنة. فيكف يرضى عاقل بفراقها وإغضابها؟! أم كيف يهنأ مع تسببه في مرضها واعتلالها؟ روى أحمد والترمذي وابن ماجه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنّةِ، فإِن شِئْتَ فأَضِعْ ذلكَ البابَ أو احْفَظْهُ. ولهذا فقد أفتى ابن عباس رضي الله عنهما، بطلاق الزوجة إرضاءً للوالدين ، كما روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي طلحة الأسدي قال: كنت جالسًا عند ابن عباس، فأتاه أعرابيان، فاكتنفاه، فقال أحدهما: إني كنت أبغي إبلاً لي، فنزلت بقوم فأعجبتني فتاة لهم فتزوجتها، فحلف أبواي أن لا يضماها أبدًا، وحلف الفتى فقال: عليه ألف محرر وألف هدية وألف بدنة إن طلقها. فقال ابن عباس: ما أنا بالذي آمرك أن تطلق امرأتك ولا أن تعق والديك. قال: فما أصنع بهذه المرأة؟ قال: ابرر والديك. وقد اختلف الفقهاء في وجوب طاعة الوالدين في تطليق الزوجة، فروي عن أحمد وجوب ذلك إذا أمره أبوه. ويدل عليه ما روى أحمد وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلقها فأبيت، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأرسل إليَّ فقال: يا عبد الله طلق امرأتك. فطلقتها. قال الشوكاني رحمه الله: (طلق امرأتك) هذا دليل صريح يقتضي أنه يجب على الرجل إذا أمره أبوه بطلاق زوجته أن يطلقها؛ وإن كان يحبها، فليس ذلك عذرًا في الإمساك، ويلحق بالأب الأم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن لها من الحق على الولد ما يزيد على حق الأب، كما في حديث: (من أبر يا رسول الله؟ فقال: أمك. ثم سأله فقال: أمك. ثم سأله فقال: أمك وأباك)، وحديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات)، وغير ذلك. اهـ والمعتمد في مذهب أحمد والشافعي أنه لا يجب على الابن طاعة أبويه في تطليق امرأته، وصرح الشافعية بأنه يستحب له ذلك. ولا شك أن الاستحباب مؤكد هنا، لوجود المفاسد الكبيرة المترتبة على استمرار هذا النكاح، ولا يبعد أن يقال بالوجوب لظاهر الحديث. رابعًا: إن كان النكاح لا يزال قائمًا، لكون الابن لم يكتب الطلاق أو ارتجع زوجته بعد الطلاق، وكانت الفتاة قد تابت من ترك الصلاة قبل العقد، أو ترجح للابن عدم كفر تارك الصلاة كسلاً، فإننا ندعوه كذلك إلى مفارقة هذه الزوجة لما سبق من حالها وحال أهلها، ولما يترتب على استمراره في نكاحها من أذىً لوالديه وأسرته، ولا وزر عليه في هذا الطلاق لو كان قد وعدها بالزواج مهما كان موقف أهله، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها ما أمكن. خامسًا: إذا أصر الابن على موقفه فإننا ننصح الأهل بعدم مقاطعته، إذ المقاطعة لا تشرع إلا عند رجاء حصول النفع بها، والمقاطعة هنا قد تزيد الابن إصرارًا وتمسكًا بزوجته، وقد ينجرف معها ومع أهلها في ما لا يرضي الله. ثم المقاطعة لا تكون إلا لمن أصر على الحرام وتمادى فيه. والابن إن كان قد عقد نكاحاً صحيحًا، فقد سلم من ذلك، وبقيت إساءته لوالديه، ومعلوم أن الإساءة لا تقابل بالإساءة، بل ينبغي حينئذ الدعاء له بصلاح الحال، واستقامته واستقامة أمره. وتذكيره بحق الوالدين في البر والصلة، ولا يلتفت إلى ما ذكر من احتمال اقتداء شباب العائلة به، فإن هذا أمر مظنون، والإنسان على نفسه بصيرة، ومن رضي بعقوق والديه وإغضابهما وإيلامهما، وفرط في أوسط أبواب الجنة، فما عساه ينفعه الهجر أو الزجر. نسأل الله أن يصلح أحوالنا جميعًا، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته. والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني