الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

أعرف أن العفو أشمل من المغفرة، فالعفو هو محو الذنب أصلاً من صحيفة الإنسان، فهل من الممكن معرفة العمل والقول المطلوبان لرجاء عفو الله؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فهذا الفرق الذي ذكره السائل قال به بعض أهل العلم، منهم الغزالي ولفظه في المقصد الأسنى.: الغفران ينبئ عن الستر، والعفو ينبئ عن المحو، والمحو أبلغ من الستر.

وقال محمد منير الدمشقي في الإتحافات السنية : العفو في حق الله تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب بالكلية فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، ولا يطالبه بها يوم القيامة، وينسيها من قلوبهم، لئلا يخجلوا عند تذكيرها، ويثبت مكان كل سيئة حسنة، والعفو أبلغ من المغفرة، لأن الغفران يشعر بالستر، والعفو يشعر بالمحو، والمحو أبلغ من الستر.

وقد عكس هذا التفريق بعض أهل العلم فجعلوا المغفرة أبلغ من العفو، ومن هؤلاء أبو هلال العسكري حيث فرق بينهما بأن العفو: ترك العقاب على الذنب، والمغفرة: تغطية الذنب بإيجاب المثوبة. ولذلك كثرت المغفرة من صفات الله تعالى دون صفات العباد، فلا يقال: أستغفر السلطان، كما يقال: أستغفر الله. الفروق اللغوية... وكذلك الكفوي حيث قال في الكليات: الغفران يقتضي إسقاط العقاب ونيل الثواب، ولا يستحقه إلا المؤمن، ولا يستعمل إلا في الباري تعالى، والعفو يقتضي إسقاط اللوم والذم ولا يقتضي نيل الثواب، ويستعمل في العبد أيضاً كالتكفير، حيث يقال: كفر عن يمينه. .

وقال ابن جزي في قوله تعالى: واعف عنا واغفر لنا وارحمنا: ألفاظ متقاربة المعنى، وبينها من الفرق أن العفو ترك المؤاخذة بالذنب، والمغفرة تقتضي مع ذلك الستر، والرحمة تجمع ذلك مع التفضل بالإنعام. التسهيل لعلوم التنزيل..

وفرق الرازي بينهما عند هذه الآية: بأن العفو أن يسقط عنه العقاب، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التخجيل والفضيحة، كأن العبد يقول: أطلب منك العفو، وإذا عفوت عني فاستره علي، فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة، والأول هو العذاب الجسماني، والثاني هو العذاب الروحاني. تفسير الرازي... تبعه على ذلك جماعة من المفسرين كالنيسابوري والخازن وابن عادل.

وعلى أية حال فالظاهر أن مراد السائل معرفة ما يترتب عليه محو الذنوب من صحيفة الأعمال أصلاً، وهذا محل نظر.. فإن عمومات الأدلة تقضي بأن كل أعمال الإنسان سيجدها في صحيفته يوم القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ {آل عمران:30}.

وقال سبحانه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا* اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا {الإسراء:13-14}.

وقال عز وجل: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {الزلزلة:7-8}، قال مقاتل: يره يوم القيامة في كتابه. تفسير مقاتل.

وقال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً في الدنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة، فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فترد حسناته ويعذبه بسيئاته. تفسير البغوي.

وقال السعدي: هذا شامل عام للخير والشر كله، لأنه إذا رأى مثقال الذرة، التي هي أحقر الأشياء، وجوزي عليها، فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى، كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ. وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا). تفسير السعدي.

على أننا إذا قلنا إن سيئات المؤمن لا تمحى من صحيفته وأنها تعرض عليه كلها أو بعضها يوم القيامة، فإن ذلك لا يضره، وهذا هو الحساب اليسير، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس أحد يحاسب إلا هلك، قالت: قلت: يا رسول الله جعلني الله فداءك، أليس يقول الله عز وجل: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟ قال: ذاك العرض يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك. متفق عليه.

وهذ العرض لا يترتب عليه فضيحة بين الخلائق يوم القيامة، بل هو لإظهار فضل الله على عبده بالستر في الدنيا والمغفرة في الآخرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب أعرف. قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته. متفق عليه.

وبهذا يتبين لنا أن الأعمال كلها تعرض يوم القيامة، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 16989.

وقد يؤول هذا العرض إلى تبديل السيئات حسنات، كما في حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم: لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. رواه مسلم.

قال ابن مفلح: تبديل السيئات حسنات بالتوبة، هل ذلك في الدنيا فقط بالطاعات أم في الدنيا والآخرة؟ للمفسرين قولان، والثاني اختاره الشيخ تقي الدين لظاهر آية الفرقان، ولحديث أبي ذر في الرجل الذي تعرض عليه صغار ذنوبه وتبدل... وهذا الرجل المراد بخروجه من النار الورود العام. الآداب الشرعية.

وقد تعرض ابن القيم لهذه المسألة بشيء من التفصيل في كتابيه (طريق الهجرتين ومدارج السالكين)... وإن كان شيء يترتب عليه محو السيئات من صحائف الأعمال فهو التوبة الصادقة والأعمال الصالحة.

أما التوبة فقد سبق بيان أن العبد إذا تاب إلى الله تعالى توبة نصوحاً مستوفية لشروطها تاب الله تعالى عليه ومحا سيئاته وبدلها حسنات، وذلك في الفتوى رقم: 54018.

ومما يؤيد ذلك أن قوله تعالى: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء {الرعد:39}، قد قيل في تفسيره: يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها، ذكره البيضاوي وأبو السعود وهذا نسبه ابن الجوزي لعكرمة بلفظ: يمحو ما يشاء بالتوبة ويثبت مكانها حسنات. زاد المسير.

وأما الأعمال الصالحة فيدل لها قوله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجا... إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطأ إلى المسجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. رواه مسلم.

قال القاضي عياض: محو الخطايا كناية عن غفرانها، ويحتمل محوها من كتاب الحفظة، ويكون دليلاً على غفرانها. شرح النووي على مسلم.

وتبعه على ذلك الطيبي في مرقاة المفاتيح، والباجي، وقد جمع الله عز وجل بين التوبة والعمل الصالح في قوله تعالى: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {الفرقان:70}، فقيل في تفسيره: يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات. ذكره الزمخشري والبيضاوي وأبو السعود والنسفي. كما سبق بيان عظيم فضل الله وسعة رحمته وأنها تسع كل شيء، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 33975، 17343، 104184.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني