الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الأدلة على شرف العلم في الدين والمتفقهين فيه على سائر العلوم والعلماء

السؤال

عندي إشكال في الفتوى رقم: 130017، أرجو توضيحه، فقد ذكرتم فيها ـ مشكورين: فحمل النصوص الواردة في فضل طلب العلم على العلوم الدنيوية لا شك في كونه من الخطإ.
وفي الفتوى رقم: 40763، ذكرتم ـ مشكورين أيضا ـ فلا شك في أن في تعلم كل علم ينتفع به المسلم في نفسه أو ينفع به المسلمين أجراً كبيراً وخيراً كثيراً، ولو لم يكن من العلوم الدينية المحضة، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم.
وإن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر.
صححه الألباني، في صحيح الجامع.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة ـ وذكر منها ـ علم ينتفع به.
الحديث، وهو في صحيح مسلم.
فدل عموم هذين الحديثين وما جاء في معناهما على أن كل علم مباح يفيد الإنسان في نفسه أو يفيد المسلمين من ورائه، فهو مرغب في تعلمه مأجور عليه ـ إن شاء الله تعالى.
فهل أحاديث الترغيب في طلب العلم هي للعلم الشرعي فقط؟ أم للعلم الدنيوي ـ أيضا؟.
أرجوا التوضيح، وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلا بد هنا من التفريق بين أمرين، بين كون العلوم الدنيوية التي تتحقق بها مصلحة للمسلمين علوما مطلوبة وصاحبها مأجور إذا أخلص وقصد بها نفع المسلمين وتحقيق مصلحتهم، وبين إدخال هذه العلوم في دلالة النصوص الشرعية الواردة في فضل العلم والعلماء، فلا إشكال في الأمر الأول، وأما الأمر الثاني: فالصواب هو حمل هذه النصوص على خصوص العلم الموروث عن الأنبياء، وذلك كقوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ {المجادلة: 11}. وقوله صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بخط وافر. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد وابن حبان، وصححه الألباني.

ولذلك نبهنا في الفتوى رقم: 130017، على خطإ حمل النصوص الواردة في فضل طلب العلم على العلوم الدنيوية.

وراجع في ذلك ـ أيضا ـ الفتويين رقم: 64133، ورقم: 11280.

وهذه بعض نصوص أهل العلم في ذلك زيادة على ما سبق:

ففي مطالب أولي النهى للرحيباني أن ابن منصور نقل عن الإمام أحمد: أن تذاكر بعض ليلة في مسائل العلم أحب إليه من إحيائها، قال: وأنه العلم الذي ينتفع به الناس في أمر دينهم، قلت: الصلاة والصوم والحج والطلاق ونحو هذا؟ قال: نعم. اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: العلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثته الأنبياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر. اهـ.

وقال النووي في قوله صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة. قال: في الحديث فضل السعي في طلب العلم، والمراد العلم الشرعي ويشترط أن يقصد به وجه الله تعالى وإن كان شرطا في كل عبادة. اهـ. وكذلك قال المناوي في فيض القدير.

وقال ابن حجر: وقوله عز وجل: رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا {طه: 114}.

واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه. اهـ.

وقال الصنعاني في سبل السلام عند قوله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.

مفهوم الشرط أن من لم يتفقه في الدين لم يرد الله به خيرا.

وفي الحديث دليل ظاهر على شرف الفقه في الدين والمتفقهين فيه على سائر العلوم والعلماء، والمراد به معرفة الكتاب والسنة. اهـ.

وقال الشيخ عبد المحسن العباد في رسالة أهمية العناية بالتفسير والحديث والفقه: العلم المحمود المُثنى عليه وعلى أهله في الكتاب والسّنّة: علم الشريعة التي بعث الله بها رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، فكل ما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من مدح للعلم وثناء على حملته، إنما يراد به هذا العلم الشرعي، علم الكتاب والسّنّة والفقه في الدين. اهـ.

ومما يدل على مراد صاحب الشريعة بمسمى العلم عند إطلاقه، ما رواه زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: ذاك عند أوان ذهاب العلم، قلت: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟.

رواه ابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.

فالعلم الذي ثبتت النصوص بفضله وفضيلة أهله هو المستفاد من الوحي، فلا ينبغي أن يفهم عند إطلاق لفظ العلماء إلا علماء الديانة الذين يعلمون ما أنزل الله على رسوله. جاء في بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية لشيخ الإسلام ابن تيمية: العالم في الحقيقة ذو العلم ـ سواء كان العلم علم الشريعة والدين أو غيره من العلوم ـ وإذا أطلق مطلق فقال: رأيت العلماء، أو جاءني عالم فلا يفهم من إطلاقه أصحاب الحرف والصناعات، بل لا يفهم منه إلا علماء الشريعة. اهـ.

ومع ذلك، فهناك بعض النصوص يحتمل حملها على كل علم نافع ولو كان بأمور الدنيا، كقوله صلى الله عليه وسلم: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. رواه مسلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علما.

رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني. قال الصنعاني في سبل السلام: إسناده حسن، فيه أنه لا يطلب من العلم إلا النافع، والنافع ما يتعلق بأمر الدين والدنيا فيما يعود فيها على نفع الدين، وإلا فما عدا هذا العلم، فإنه ممن قال الله فيه: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ {البقرة: 102}.

أي في أمر الدين، فإنه نفى النفع عن علم السحر لعدم نفعه في الآخرة، بل لأنه ضار فيها، وقد ينفعهم في الدنيا لكنه لم يعده نفعا. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني