الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

أرجو من فضيلتكم بسط الشرح في مسألة العذر بالجهل، فأنا أعيش في بيئة مسلمة، لكنها في غفلة شديدة وغير ملتزمة بالأمور الشرعية، وكنت في سنوات البلوغ الأولى أعتمد على والديّ، وبعد ذلك على ما أقرؤه أو أسمعه، ولم أعرف طريق العلماء وطلب العلم إلا متأخرًا، ولا أستطيع أن أتعلم كل الأمور مرة واحدة في العقيدة والطهارة والصلاة مما يسبب لي قلقًا شديدًا في العبادات والمعتقدات خوفًا من ارتكاب أخطاء تهدم ما أفعله، فأظل في دائرة الإعادة إلى ما لا نهاية، ولا أهدف بسؤالي هذا إلى تتبع الرخص، ولكن لا أريد إتاحة مدخل لوساوس الشيطان.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فننصحك بمواصلة الدراسة للعلم الشرعي والحرص على تعليم أهلك ومجتمعك وأن تكثروا من الدعاء الذي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أبابكر إليه حيث قال له: والذي نفسي بيده للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم. رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.

فاقرئي ما تيسر من كتب العقيدة الصحيحة والفقه بتدرج، فقد قال معمر: سمعت الزهري يقول: من طلب العلم جملة فاته، وإنما يدرك العلم حديثاً وحديثين. اهـ.

وإذا واصلت الطلب فاصرفي عن ذهنك احتمال وجود أخطاء في العقيدة والعبادات، فإن ذلك قد يفضي للوسوسة، واعلمي أنك لو اكتشفت خطأ في الصلاة فلا يلزم إعادة ما حصل من أخطاء سابقة في صلواتك، وإنما يلزم إصلاح الصلاة الحاضرة التي اكتشفت حصول الخطأ فيها عند شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ فقد قال إن من أخطأ في صلاته جاهلاً بحكمه تجب عليه إعادة صلاة الوقت والالتزام به في المستقبل، ولا تجب عليه إعادة ما مضى، واستدل على ذلك بأدلة كثيرة، فقال في مجموع الفتاوى: وأما من لم يعلم الوجوب فإذا علمه صلى الوقت وما بعدها ولا إعادة عليه، كما ثبت في الصحيحين أن النبي قال للأعرابي المسيء في صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل، قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني ما يجزيني في صلاتي فعلمه، وقد أمره بإعادة صلاة الوقت ولم يأمره بإعادة ما مضى من الصلاة مع قوله لا أحسن غير هذا، وكذلك لم يأمر عمر وعماراً بقضاء الصلاة، وعمر لما أجنب لم يصل، وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة، ولم يأمر أبا ذر بما تركه من الصلاة وهو جنب، ولم يأمر المستحاضة أن تقضي ما تركت مع قولها: إني أستحاض حيضة شديدة منعتني الصوم والصلاة. انتهى.

وقال أيضا ـ رحمه الله تعالى: لو ترك الطهارة الواجبة لعدم بلوغ النص مثل أن يأكل لحم الإبل ولا يتوضأ، فهل عليه إعادة ما مضى؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد، ونظيره أن يمس ذكره ويصلي ثم يتبين له وجوب الوضوء من مس الذكر والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة، لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان، ولأنه قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ـ فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين لم يثبت حكم وجوبه عليه، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعمارا لما أجنبا فلم يصل عمر وصلى عمار بالتمرغ أن يعيد واحد منهما، وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب ويمكث أياما لا يصلي، وكذلك لم يأمر من أكل من الصحابة حتى يتبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، كما لم يأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ بالقضاء. انتهى. مختصرا من الفتاوى الكبرى.

ومثل هذا من وقع في خطأ اعتقادي فلا يكفر الشخص به إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال شيخ الإسلام: إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى التكفير أو تفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية، كما أنكر شريح قراءة من قرأ: بل عجبت ويسخرون ـ وقال: إن الله لا يعجب فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أعلم منه وكان يقرأ: بل عجبت ـ وكما نازعت عائشة وغيرها من الصحابة في رؤية محمد ربه وقالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ـ ومع هذا لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين إنه مفتر على الله، وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي، وفي تعذيب الميت ببكاء أهله وغير ذلك، وقد آل الشر إلى الاقتتال مع اتفاق أهل السنة أن الطائفتين جميعاً مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم، لأن المقاتل وإن كان باغياً فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق. انتهى.

وقال في موضع آخر: والتحقيق في هذا أن القول قد يكون كفراً كمقالات الجهمية الذين قالوا إن الله لا يتكلم ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل كما قال السلف من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة والزكاة واستحل الخمر والزنا وتأول، فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره إلا بعد البيان له واستتابته كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح في الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني