الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من حكمة الله ألا يُضِل العباد، وقد يُقدر الله على عبد أن يرى الباطل حقًّا لحكمة يريدها

السؤال

جزاكم الله كل خير على هذا الموقع المبارك، وأسأل الله تعالى أن ينفعنا بكم، ويجعل ذلك في موازين حسناتكم.
لدي بعض الأسئلة في مواضيع العقيدة والفكر تلح عليّ بدرجة كبيرة، وتسيطر على تفكيري حتى أصابني منها الهم والغم، فقررت أن أطرحها على العلماء -لعل الله أن يشفيني بإجاباتهم- ويذهب عني ما أجد، وأرجو أن يتسع صدركم لنا، فوالله أنتم ملجؤنا بعد الله تعالى، ولا أريد أن أطيل عليكم.
أحد أسئلتي عن قدرة الله تعالى وإرادته، فإذا علمنا أن الله قادر على كل شيء، ويفعل ما يشاء بشكل مطلق، ودون أي قيد، وأننا إنما ندرك ونفهم ونوقن بقدرة الله بحيث لو شاء الله ألا ندرك ولا نفهم ونوقن لما أدركنا شيئًا، ولا أيقنا بشيء، فهل الله قادر على جعلنا نوقن بأمور خاطئة على أنها صواب؟ وإذا كان قادرًا فما أدرانا لعل البديهيات والمبرهنات التي نوقن بها من هذا النوع؟ بمعنى هل يمكن أن يجعلني الله أوقن بأن اجتماع النقيضين ممكن، أو حتى واجب مثلًا؟
وقد سمعت في الدعاء: (اللهم أرنا الحق حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه) مما يعني أننا قد نرى الباطل حقًّا والحق باطلًا، فمن أين لنا الثقة واليقين بعد هذا، سواء فيما نعقله أم فيما نحسه؟ الرجاء التكرم بإجابتي بشكل محكم وبسيط قدر الإمكان حتى لا يتبلبل فكري المبلبل أصلًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله أن يُلهمك رشدك، وقد أحسنت إذ سألت عما أشكل عليك، ولكن نوصيك بوصية عظيمة تدفع عنك ما تجده -وهي طلب العلم- قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين؛ مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه عنه؛ فإن هذا فرض على الأعيان. اهـ.

وانظر للفائدة الفتويين: 247378، 53350.

ثم إن ما ذكرته بخصوص عموم قدرة الله مخصوص عند العلماء بالمحال لذاته، كالجمع بين الضدين؛ فليس هو شيء، وانظر الفتويين: 111144، 185729.

وقد يُقدر الله على عبد أن يرى الباطل حقًّا، أو الحق باطلًا - لحكمة يريدها -؛ قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {فاطر: 8}.

وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {الجاثية: 23}.

ولكن الله عصم هذه الأمة من أن تجتمع على ضلالة، فضلًا عن أن تجتمع مع غيرها من عقلاء الناس على ضلالة، وانظر الفتوى رقم: 28730.

والله - عز وجل - حكيم، ومن حكمته ألا يُضِل العباد، وإلا كان ذلك منافياً للحكمة، وضربًا من العبث يُنزه عنه عقلاء الرجال، فضلًا عن أحكم الحاكمين؛ قال السعدي في شرح الأسماء: الحكيم:
قال -رحمه الله تعالى-: الحكيم هو الذي له الحكمة العليا في خلقه، وأمره، الذي أحسن كل شيء خلقه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} المائدة (50)، فلا يخلق شيئاً عبثًا، ولا يشرع شيئًا سدى، الذي له الحكم في الأولى، والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده في شرعه، وفي قدره، وجزائه.

والحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها، والحكيم: الموصوف بكمال الحكمة، وبكمال الحكم بين المخلوقات، فالحكيم هو واسع العلم، والاطلاع على مبادئ الأمور، وعواقبها، واسع الحمد، تام القدرة، غزير الرحمة، فهو الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه، وأمره، فلا يتوجه إليه سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال، وحكمته نوعان: أحدهما: الحكمة في خلقه، فإنه خلق الخلق بالحق، ومشتملاً على الحق، وكان غايته والمقصود به الحق، خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به .. وحسب العقلاء الحكماء منهم أن يعرفوا كثيرًا من حكمه، ويطلعوا على بعض ما فيها من الحسن، والإتقان.

النوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره، فإنه تعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العباد، ويعبدوه، فأي حكمة أجل من هذا، وأي فضل، وكرم أعظم من هذا، فإن معرفته تعالى، وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له وحده، وشكره، والثناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق، وأجل الفضائل لمن منَّ الله عليه بها، وأكمل سعادة، وسرورًا للقلوب، والأرواح، كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية، والنعيم الدائم، فلو لم يكن في أمره، وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، ولأجلها خلقت الخليقة، وحق الجزاء، وخلقت الجنة، والنار، لكانت كافية شافية، هذا وقد اشتمل شرعه، ودينه على كل خير، فأخباره تملأ القلوب علمًا، ويقينًا، وإيمانًا، وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب، ويزول انحرافها، وتثمر كل خلق جميل، وعمل صالح، وهدى، ورشد، وأوامره، ونواهيه محتوية على عناية الحكمة، والصلاح، والإصلاح للدين، والدنيا، فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته. انتهى.

ومسألة القدر عميقة، لا يستطيع المرء أن يتخيلها كاملة؛ إذ القدر قدرة الله -كما قال الإمام أحمد- فأنّى يُحيط العبد بقدرة الله تعالى؛ ولذلك نُهينا عن الخوض فيه، فلا تخض فيه، وانظر لهذه المقولة الجميلة لوهب بن منبه، والتي نقلها عنه ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية قال: نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم به. انتهى .

وانظر الفتوى رقم: 153849، وتوابعها، وانظر كذلك للفائدة الفتوى رقم: 193117.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني