الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شبهة حول علة التيسير في أوجه القراءات والرد عليها

السؤال

لا يمكننا ونحن نتلو الآية الأخيرة من سورة الشمس: {ولا يخاف عقباها} أن نعلل قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر: {فلا يخاف عقباها} بأنها تيسير على قبائل مختلفة اللهجات؛ فلا يوجد عربي يصعب عليه حرف الواو، فيلفظه فاء، ولا توجد قبيلة لا تستطيع أن تتلو لفظة "فلا" فتستبدل بها "ولا".
كما أن كل ما يحشده أئمة القراءات والتفسير من نصوص وأدلة للتيسير كسبب لتعدد القراءات القرآنية لن يصمد أمام خلاف سورة الحديد {ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد}؛ حيث قرأها نافع وابن عامر وأبو جعفر بحذف الضمير "هو"، بينما قرأها الباقون بإثباتها كحفص.
ومواضع الخلاف التي سقت أمثلة لها ليست قليلة أو نادرة، بل هي تنتشر في كل أجزاء القرآن الكريم، وفي كل أحزاب وأرباع المصحف.
وما أراه أن علة التيسير لا تثبت أمام النقد، ولا تصمد في وجه أمثلة الخلاف بين أئمة القراءات، وأوجه التباين بين رسم المصاحف حذفا وإضافة وإبدالا، فضلا عن الخلاف في عد الآيات؛ إذ إن المصاحف العثمانية مختلفة في عد الفواصل، أو نهاية الآيات؛ فمثلا: قوله تعالى: {فأما من طغى} آية تامة، و{آثر الحياة الدنيا} آية تالية، وذلك في المصحف الكوفي والبصري والشامي، فيما نجد أن العبارتين آية واحدة لا آيتين، أي أن الفاصلة بينهما غير معدودة في المصحف المكي، والمدني الأول، والمدني الأخير.
وقد كتب عثمان بن عفان المصاحف بطريقة تحتمل القراءات المختلفة، فلم تعرف الكتابة -وقتها- نقط الحروف، ولا علامات التشكيل، فجاءت المصاحف قابلة لتعدد القراءة، يحتمل رسمها أوجه الخلاف، فكلمة "فتبينوا" في مواضعها الثلاثة بالقرآن، قرأها حمزة والكسائي وخلف "فتثبتوا"، وصورة الكلمة بدون النقط واحدة في القراءتين.
أما المواضع التي لا يحتملها رسم المصحف الواحد، فقد كتبت في أحد المصاحف بوجه، وفي المصاحف الأخرى بوجه ثان، ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: {جنات تجري تحتها الأنهار} في الآية رقم 100 من سورة التوبة، حيث قرأها ابن كثير بإضافة حرف الجر "من" هكذا: { تجري من تحتها الأنهار}، بينما قرأها الباقون بدون حرف الجر، مع نصب لفظة "تحتها" على الظرفية، وهو الموضع الوحيد بدون "من" في كل عبارات {تجري من تحتها الأنهار} المتكررة في القرآن، ولأن رسم المصحف لا يمكن أن يحتمل القراءتين، فقد كتبت في المصحف الذي جعله عثمان لأهل مكة بدون حرف الجر، بينما أثبتت بقية المصاحف "من" قبل لفظة "تحتها".
ويعجب من يدرس علم القراءات، كيف استقرت وترسخت علة التيسير، وقبلها العلماء عبر القرون المتوالية، بالرغم من أن دراسة قراءتين فقط من القراءات العشر، أو روايتين من الروايات العشرين، كفيلة بنسف علة التيسير، والإتيان عليها من أساسها، بل إن دراسة روايتين لنفس القراءة، كشعبة وحفص عن عاصم، أو قالون وورش عن نافع، أو الدوري والسوسي عن أبي عمر، تثبت تهافت التيسير كعلة لتعدد القراءات القرآنية.
ولا يحتاج من يرفض علة التيسير أن يرد حديث الأحرف السبعة، ولا الأحاديث التي تؤيده؛ إذ يمكننا حمل هذا الحديث على "الأصول"، كالإدغام والإظهار، أو تسهيل الهمزات أو تحقيقها، أو نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، أو الفتح والإمالة والتقليل، بينما يبقى "فرش الحروف" بحاجة إلى علة أخرى، ونظر يتجاوز الموروث.
والذي أراه: أن الأمة الإسلامية وعلماءها، لا سيما أهل هذا الفن الدقيق، بحاجة إلى مراجعة فكرة "الحفظ الحرفي" للنص القرآني، والانتقال منها إلى فكرة "الحفظ العام" أو الإجمالي، وهي مراجعة لا تتعارض مطلقا مع قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
برجاء الرد على هذه الشبهة.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن القرآن الكريم قرآن واحد، وهو الذي يقرؤه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، لا يستطيع أحد أن يبدل أو يغير أو يزيد فيه أو ينقص منه حرفًا واحدًا؛ فقد تكفل الله -عز وجل- بحفظه، فقال -جل وعلا-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {الحجر:9}، هذا ما لا يمتري فيه عاقل ولا ينكره منصف. قال القاضي عياض في كتابه الشفا في بيان حقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- 2/304: (وقد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين، مما جمعه الدفتان من أول "الحمد لله رب العالمين" إلى آخر " قل أعوذ برب الناس" أنه كلام الله، ووحيه المنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن جميع ما فيه حق، وأن من نقص منه حرفًا قاصدًا لذلك، أو بدله بحرف آخر مكانه، أو زاد فيه حرفًا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه، وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدًا لكل هذا -أنه كافر).
وقال ابن قدامة في لمعة الاعتقاد: (ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفًا متفقًا عليه أنه كافر).

فتبين بهذا الإجماع أن مِن أبطل الباطل ادعاء أن قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {الحجر:9} لا تتعارض مع فكرة قصر حفظ القرآن على الحفظ العام دون الحفظ الحرفي، فالآية عامة في كل حفظ ويؤيدها دليل الإجماع.
وهذا الادعاء مع مخالفته للنص والإجماع ليس عليه أثرة من علم، بل هي شبهة يرددها صاحب هذه الدعوى.
وكذلك دعواه قصر علة التيسير على الأصول دون فرش الحروف ادعاء لا دليل عليه، بل الدليل بخلافه؛ يبين ذلك ابن قتيبة -رحمه الله- في تأويل مشكل القرآن حيث يقول: فكان من تيسيره: أن أمره بأن يقرأ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم؛ فالهذليّ يقرأ: «عتّى حين» يريد حَتَّى حِينٍ [المؤمنون: 54] ، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها. والأسديّ يقرأ: تعلمون وتعلم وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] -بكسر تاء المضارعة- ، و: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ [يس: 60] والتّميميّ يهمز. والقرشيّ لا يهمز. والآخر يقرأ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ [البقرة: 11] وَغِيضَ الْماءُ [هود: 44] بإشمام الضم مع الكسر، وهذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يوسف: 65] بإشمام الكسر مع الضم، و: ما لَكَ لا تَأْمَنَّا [يوسف: 11] بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان.

ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا -لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للّسان، وقطع للعادة. فأراد الله -برحمته ولطفه- أن يجعل لهم متّسعا في اللغات، ومتصرّفا في الحركات، كتيسيره عليهم في الدّين حين أجاز لهم على لسان رسوله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- أن يأخذوا باختلاف العلماء من صحابته في فرائضهم، وأحكامهم، وصلاتهم وصيامهم، وزكاتهم، وحجّهم، وطلاقهم، وعتقهم، وسائر أمور دينهم. انتهى.
فأنت ترى أن ابن قتيبة -رحمه الله- قد مثل أمثلة للأصول ولفرش الحروف.
وأخيرًا نقول: إن الأمثلة التي أوردها صاحب الشبهة، وأراد بها الاستدلال على عدم صحة حكمة التيسير في اختلاف الأحرف والقراءات، استدلال غير صحيح؛ وذلك أن العلماء لم يدّعوا أن الحكمة في اختلاف الأحرف والقراءات محصورة في التيسير، ولا ذكروا أنها علة لكل اختلاف وقع بين الأحرف والقراءات، بل هي حكمة من الحكم في كثير من ألفاظ القرآن لا في كلها. وقد ذكر الزرقاني في مناهل العرفان بعض هذه الحكم، فذكر منها: بيان حُكم من الأحكام، والجمع بين حكمين مختلفين بمجموع القراءتين، والدلالة على حكمين شرعيين ولكن في حالين مختلفين، ودفع توهم ما ليس مرادًا، وبيان لفظ مبهم على البعض، وتجلية عقيدة ضل فيها بعض الناس، فراجعها مفصلة في كتاب المناهل.
وللفائدة يرجى مراجعة هاتين الفتويين: 161863، 11143.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني