الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجمع بين جوابي قوم لوط في سورتي الأعراف والعنكبوت

السؤال

أنا موقن أنه لا تناقض في القرآن تمامًا بأي شكل من الأشكال، ولا أدع في صدري مجالًا للشك، فأريد أن أحيل إليكم شبهة زعمها أعداء الدين، وأريد الرد الصحيح عليها:
يقول هؤلاء: ماذا كان جواب قوم لوط؟
(الأعراف) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ 82 فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ 83 وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ 84
(العنكبوت) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ 28 أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 29
كيف نرد عليهم؟!

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد أحسنت إذ سألت عما أشكل عليك مع يقينك بعدم الاختلاف في كلام الله، وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال جوابًا خلاصته: أن كل آية تناولت موقفًا يختلف عن الآخر؛ فهم أولًا قالوا: ائتنا بعذاب الله. فبقي على دعوته؛ فقالوا: أخرجوا آل لوط. وسننقله مفصلًا من كلام المفسرين، ولكن نود أن نشير إشارة عابرة إلى أن العرب الكفار لما سمعوا الآيتين -مع حرصهم على معارضة القرآن، والتشغيب عليه- لم يعترضوا، وكأنهم لم يروا إشكالًا في ذلك، وكذلك الصحابة لما سمعوا الآيتين لم يسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن جواب الإشكال؛ فإن من كان عارفًا بسَنَن العربية علم أنه جار على كلام العرب.

قال الرازي في تفسيره: فإن قيل: إن الله تعالى قال في موضع آخر: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم..} [النمل: 56]. وقال هاهنا: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا..}. فكيف الجمع؟ فنقول: لوط كان ثابتًا على الإرشاد، مكررًا عليهم التغيير والنهي والوعيد، فقالوا أولًا: ائتنا. ثم لما كثر منه ذلك، ولم يسكت عنهم، قالوا: أخرجوا. ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة من الله، وذكرهم بما لا يحب الله، فقال: رب انصرني على القوم المفسدين. فإن الله لا يحب المفسدين، حتى ينجز النصر. واعلم أن نبيًّا من الأنبياء ما طلب هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم، كما قال نوح: إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [نوح: 27] يعني المصلحة إما فيهم حالًا أو بسببهم مآلًا، ولا مصلحة فيهم، فإنهم يضلون في الحال وفي المآل، فإنهم يوصون الأولاد من صغرهم بالامتناع من الاتباع، فكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال، واشتغلوا بما لا يرجى معه منهم ولد صالح يعبد الله، بطلت المصلحة حالًا ومآلًا، فعدمهم صار خيرًا، فطلب العذاب. انتهى.

ونفس الجواب مختصرًا لابن عادل الحنبلي في اللباب: فإن قيل: إن الله قال في موضع آخر: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ} [النمل: 56]. وقال هنا: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا}. فكيف الجمع؟ فالجوابُ: أن لوطًا كان ثابتًا على الإرشاد، مكررًا على النهي والوعيد، فقالوا (أولًا): ائتنا. (ثم) لما كثر منه، ولم يسكت عنهم، قالوا: «أخرجوا». ثم إنَّ لوطًا لما يَئِسَ منهم طلب النُّصْرَةَ من الله، وذكرهم بما لا يحب الله، فقال: «رب انصرني على القوم المفسدين} (فإن الله لا يحب المفسدين) حتى يُنْجِزَ النَّصْرَ. انتهى.

وقال أبو السعود: وما في سورة النَّمل من قولِه تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قومه إلا أن قالوا اخرجوا آل لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ..} الآيةَ، فهو الذي صَدر عنهم بعده هذه المرة، وهي المرة الأخيرة من مرات المُقاولاتِ الجاريةِ بينهم وبينه -عليه الصلاةُ والسلامُ-، وقد مر تحقيقه في سورة الأعرافِ. انتهى.

وعلق الألوسي على تفسير أبي السعود فقال: وتعقب بأن هذا التعيين يحتاج إلى توقيف. وأجيب بأن مضموني الجوابين يشعران بالتقدم والتأخر، وذلك أن ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ من باب التكذيب والسخرية، وهو أوفق بأوائل المواعظ والتوبيخات، وأَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ونحوه من باب التعذيب والانتقام، وهو أنسب بأن يكون بعد تكرر الوعظ والتوبيخ الموجب لضجرهم، ومزيد تألمهم مع قدرتهم على التشفي، وهذا القدر يكفي لدعوى التقدم والتأخر، وقيل في دفع المنافاة بين الحصرين: إن ما هنا جواب قومه -عليه السلام- له إذ نصحهم، وما هناك جواب بعضهم لبعض إذ تشاوروا في أمره، وقيل: إن أحد الجوابين صدر عن كبار قومه وأمرائهم، والآخر صدر عن غيرهم، وظاهر صنيع بعض الأجلة يقتضي اختيار أن يكون كل من الحصرين بالإضافة إلى الجواب الذي يرجوه -عليه السلام- في متابعته؛ فتأمل. انتهى.

وقال الشوكاني في فتح القدير: وقد تقدم في سورة النمل: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم}، وتقدم في سورة الأعراف: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم}، وقد جمع بين هذه الثلاثة المواضع بأن لوطًا كان ثابتًا على الإرشاد، ومكررًا للنهي لهم، والوعيد عليهم، فقالوا له أولًا: ائتنا بعذاب الله. كما في هذه الآية، فلما كثر منه ذلك، ولم يسكت عنهم، قالوا: أخرجوهم. كما في الأعراف، والنمل، وقيل: إنهم قالوا أولًا: أخرجوهم من قريتكم. ثم قالوا ثانيًا: ائتنا بعذاب الله. انتهى.

وراجع الفتوى رقم: 213115.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني