الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم متابعة الأخبار السياسية لمن لا يستطيع تغيير الواقع

السؤال

يقول بعض الناس إن متابعة أخبار السياسة تدخل في قول من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، وأنا أرى في السياسة تضييعا للأوقات وسخافة في الرأي، وأغلبها كذب، ولا نستطيع فيها نحن الرعية شيئا، فما القول الصحيح فيها؟.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا يخفى أن الاهتمام بأمر المسلمين لا يقتصر على متابعة أخبار السياسة بتفاصيلها! كما أن المتابعين لهذه الأخبار لا يزيد بعضهم على مجرد المتابعة، وبعضهم لا يترتب على متابعته إلا مجرد الحزن لآلامهم والفرح بأفراحهم، دون أن يسهم في قضاياهم بشيء! وأما الأخبار نفسها، فكثير منها ـ إن لم نقل أكثرها ـ لا تتوفر فيه المعايير الشرعية للثبوت، والثابت منها لا يمتلك كثير من متابعيه الأهلية لمعرفة الطريقة الصحيحة للتعامل معها والبناء عليها! وإذا كانت الحال كذلك، فإن الواجب في هذه القضية يتفاوت بحسب حال الناس ومؤهلاتهم، ومواقعهم من المسئولية، وقدرتهم على الفعل والتأثير والمشاركة الإيجابية في مجريات الأمور، فيسع بعضهم ما يضيق عن آخرين، ويستحب لبعضهم ما يكره لآخرين، بل ويحرم على بعضهم ما يجب على آخرين، ولاسيما في رد الفعل والواجب عند سماع الأخبار! قال الله عز وجل: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ {النساء: 83}.

قال السعدي في تفسيره: في هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. انتهى.

وقال ابن كثير في هذه الآية: إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة، وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه ـ وذكر إسناده ـ عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ـ وكذا رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه.. وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن قيل وقال: أي: الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر، ولا تبين، وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بئس مطية الرجل زعموا عليه ـ وفي الصحيح: من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين. انتهى.

وقال الزحيلي في التفسير المنير: معنى الآية: قد يبلغ الخبر عن أحوال الأمن السلم والخوف الحرب من مصادر غير موثوقة إلى الجهلة أو المنافقين أو ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالقضايا العامة، فيبادرون إلى إذاعته ونشره وترويجه بين الناس، وهذا أمر منكر يضر بالمصلحة العامة، لذا يجب أن يترك الحديث في الشؤون العامة إلى قائد المسلمين ـ وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ أو إلى أولي الأمر ، وهم أهل الرأي والحل والعقد ورجال الشورى في الأمة، فهم أولى الناس وأدراهم بالكلام فيها، فهم الذين يتمكنون من استنباط الأخبار الصحيحة، واستخراج ما يلزم تدبيره وقوله بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها، أما التحدث بكل ما نسمع، ونقل الأخبار من غير تثبت، ففيه ضرر واضح بالدولة، لذا فإن كل الدول المعاصرة تفرض رقابة على الأخبار في الصحف والإذاعة وغيرها حتى لا تشوه المواقف وتستغل عقول الناس، سواء في السلم أو في الحرب. انتهى.

وأما مفاسد مخالفة هذا المسلك الرشيد الذي تدل عليه هذه الآية، فقد عدد الرازي بعضها، فقال في مفاتيح الغيب: اعلم أنه تعالى حكى عن المنافقين في هذه الآية نوعا آخر من الأعمال الفاسدة، وهو أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف، أذاعوه وأفشوه، وكان ذلك سبب الضرر من وجوه:

الأول: أن مثل هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير.
والثاني: أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة، فإذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول عليه السلام، لأن المنافقين كانوا يروون تلك الإرجافات عن الرسول، وإن كان ذلك في جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الإرجافات سببا للفتنة من هذا الوجه.

الوجه الثالث: وهو أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام، وذلك سبب لظهور الأسرار وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة.
الرابع: أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين وبين الكفار، وكان كل واحد من الفريقين في إعداد آلات الحرب وفي انتهاز الفرصة فيه، فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني، فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم أرجف المنافقون بذلك فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار، فأخذوا في التحصن من المسلمين، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم، وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك، وزادوا فيه وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين، فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشأ للفتن والآفات من كل الوجوه، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تلك الإذاعة وذلك التشهير، ومنعهم منه. انتهى.

وجاء في التفسير الوسيط: المجتمع الذي يكثر فيه العقلاء الفطناء هو الذي تقل فيه إذاعة الأخبار إلا من مصادرها الأصيلة، وهو الذي يرجع أفراده في معرفة الحقائق إلى العلماء المتخصصين. انتهى.

وراجع للفائدة الفتويين رقم: 265798، ورقم: 99057.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني