الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التوفيق بين اختلاف القراء في البسملة وبين حفظ القرآن من التحريف

السؤال

أريد أن أستفسر كيف نوفق بين الاختلاف في البسملة وبين عصمة القرآن من التحريف؟
ولماذا الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينبه أصحابه على هذا الأمر؟
وكيف يختلف العلماء في آيات من القرآن الكريم؟
قرأت جوابا على موقع "الإسلام سؤال وجواب" لكنني لم أقتنع أو بالأحرى لم أفهم.
جزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإنه يمكن التوفيق في هذا بما يوفق به بين قراءات القراء المتواترة، فإنه يوجد في بعض القراءات ما ليس في بعض القراءات الأخرى، ويوجد في بعض مصاحف عثمان التي وزعها على الأمصار ما ليس في بعض المصاحف الأخرى، وكل ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل المختلفين فيه يصححون قراءات القراء الأخرى المتواترة، ولا يعتبر المثبت غيره محرفا ولا ناقصا لشيء من القرآن، كما أن من لم يقرأ بتلك القراءة لا يعتبر من أثبتها تعمد زيادة أو تحريفا.

فقد ثبت في الحديث عن المسور بن مَخْرَمة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان فقرأ فيها حروفاً لم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فأردتُ أن أُساوره وأنا في الصلاة، فلما فرغ قلت: من أقرأكَ هذه القراءة، قال: رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، قلت: كذبت! فأخذت بيده أقوده إلى رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فقلت: إنك أقرأتني سورة الفرقان، وإني سمعت هذا يقرأ حروفاً لم تكن أقرأتنيها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأْ يا هشام، فقرأ كما كان قرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أُنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت. فقال: هكذا أُنزلت. أخرجه البخاري ومسلم.
وقال النووي في المجموع في الكلام على البسملة: وأجمعت الأمة على أنه لا يكفر من أثبتها ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها, بخلاف ما لو نفى حرفا مجمعا عليه أو أثبت ما لم يقل به أحد, فإنه يكفر بالإجماع . اهـ

وقال الجزري في النشر في القراءات العشر (1/ 271) في الكلام على البسملة والخلاف في عدها آية:
اختلف في هذه المسألة على خمسة أقوال:

(أحدها): أنها آية من الفاتحة فقط، وهذا مذهب أهل مكة والكوفة، ومن وافقهم، وروي قولا للشافعي.

(الثاني): أنها آية من أول الفاتحة، ومن أول سورة، وهو الأصح من مذهب الشافعي، ومن وافقه، وهو رواية عن أحمد، ونسب إلى أبي حنيفة.

(الثالث): أنها آية من أول الفاتحة، بعض آية من غيرها، وهو القول الثاني للشافعي.

(الرابع): أنها آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، وهو المشهور عن أحمد، وقال داود وأصحابه، وحكاه أبو بكر الرازي، عن أبي الحسن الكرخي، وهو من كبار أصحاب أبي حنيفة.

(الخامس): أنها ليست بآية ولا بعض آية من أول الفاتحة، ولا من أول غيرها، وإنما كتبت للتيمن والتبرك، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري، ومن وافقهم، وذلك مع إجماعهم على أنها بعض آية من سورة النمل، وأن بعضها آية من الفاتحة.

(قلت): وهذه الأقوال ترجع إلى النفي والإثبات، والذي نعتقده أن كليهما صحيح، وأن كل ذلك حق، فيكون الاختلاف فيهما كاختلاف القراءات. قال السخاوي - رحمه الله -: واتفق القراء عليها في أول الفاتحة، فإن ابن كثير، وعاصما، والكسائي يعتقدونها آية منها ومن كل سورة، ووافقهم حمزة على الفاتحة خاصة. قال: وأبو عمرو، وقالون، ومن تابعه من قراء المدينة لا يعتقدونها آية من الفاتحة. انتهى. ويحتاج إلى تعقب، فلو قال: يعتقدونها من القرآن أول كل سورة ليعم كونها آية منها أو فيها، أو بعض آية - لكان أسد ; لأنا لا نعلم أحدا منهم عدها آية من كل سورة سوى الفاتحة نصا، وقوله: إن قالون ومن تابعه من قراء المدينة لا يعتقدونها آية من الفاتحة ففيه نظر، إذ قد صح نصا أن إسحاق بن محمد المسيبي أوثق أصحاب نافع وأجلهم، قال: سألت نافعا، عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم فأمرني بها، وقال: أشهد أنها آية من السبع المثاني، وأن الله أنزلها. روى ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بإسناد صحيح، وكذلك رواه أبو بكر بن مجاهد، عن شيخه موسى بن إسحاق القاضي عن محمد بن إسحاق المسيبي، عن أبيه، وروينا أيضا عن المسيبي قال: كنا نقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) أول فاتحة الكتاب، وفي أول سورة البقرة، وبين السورتين في العرض والصلاة، هكذا كان مذهب القراء بالمدينة قال: وفقهاء المدينة لا يفعلون ذلك. (قلت) : وحكى أبو القاسم الهذلي، عن مالك أنه سأل نافعا عن البسملة فقال: السنة الجهر بها، فسلم إليه وقال: كل علم يسأل عنه أهله. اهـ

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في (مذكرة أصول الفقه):
اختلف العلماء في البسملة، هل هي آية من أول كل سورة، أو من الفاتحة فقط، أو ليست آية مطلقاً. أما قوله في سورة النمل " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" فهي آية من القرآن إجماعاً. وأما سورة براءة فليست البسملة آية منها إجماعاً، واختلف فيما سوى هذا، فذكر بعض أهل الأصول أن البسملة ليست من القرآن، وقال قوم هي منه في الفاتحة فقط، وقيل هي آية من أول كل سورة وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. قال مقيده عفا الله عنه: ومن أحسن ما قيل في ذلك، الجمع بين الأقوال، بأن البسملة في بعض القراءات كقراءة ابن كثير آية من القرآن وفي بعض القرآن ليست آية، ولا غرابة في هذا, فقوله في سورة الحديد " فإن الله هو الغني الحميد" لفظة (هو) من القرآن في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، وليست من القرآن في قراءة نافع وابن عامر لأنهما قرءا " فإن الله الغني الحميد" وبعض المصاحف فيه لفظة (هو) وبعضها ليست فيه. وقوله: " فأينما تولوا فثم وجه الله فإن الله واسع عليم". " وقالوا اتخذ الله ولداً" الآية. فالواو من قوله (وقالوا) في هذه الآية من القرآن، على قراءة السبعة غير ابن عامر، وهي في قراءة ابن عامر ليست من القرآن لأنه قرأ " قالوا اتخذ الله ولداً" بغير واو وهي محذوفة في مصحف أهل الشام، وقس على هذا، وبه تعرف أنه لا اشكال في كون البسملة آية في بعض الحروف دون بعض، وبذلك تتفق أقوال العلماء. اهـ

وتراجع الفتوى رقم: 191029.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني