الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل مفهوم البدعة يختلف بين ما فعله الصحابة وما فعله غيرهم؟

السؤال

لديّ سؤال حول مفهوم البدعة: يرد في بعض النصوص عن الصحابة أنهم فعلوا بعض العبادات، والأذكار ولم يرد فيها نص مسبق بأن فعلها أو قولها سنة أو جائز، كقول الصحابي بعد الرفع من الركوع: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ـ فلماذا لم يطلق على هذا الفعل أنه بدعة؛ لأنه أتى بذكر في الصلاة لم يرد؟ في حين أنه لو جاء رجل في زماننا فزاد ذكرًا أو دعاء آخر لم يرد في السنة لقلنا ببدعيته، ولماذا اختلف مفهوم البدعة بالنسبة للصحابة ولنا؟ وما الضابط في ذلك؟ ولا يمكن أن يقال: إنهم فعلوا ذلك في زمان التشريع؛ ولذلك لا يكون في فعلهم حرج؛ لأن الحديث الوارد: من أحدث في ديننا ما ليس عليه أمرنا فهو رد ـ وهذا الحديث عام يشمل أي نوع من أنواع الإحداث، ولا يختص بزمن دون غيره، فما الذي أخرج زمن التشريع عن غيره من الأزمنة؟ ثم إن السؤال لا يتعلق بما آل إليه الحكم من موافقة الشرع لفعل الصحابي، أو الاعتراض عليه، وإنما السؤال هو حول فعل الصحابي ابتداءً هل هو بدعة أو لا؟ فهو في الأساس لم يطرأ في باله أنه قد يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، أو قوله هذا، وإنما فعله من تلقاء نفسه، فهو قد أتى فعلًا جديدًا قطعًا، وهل يقال بأن أفعال الصحابة تندرج تحت أصول عامة؟ وبماذا يجاب حينئذ عن الصحابي الذي امتنع عن الزواج من النساء تعبدًا؟ وهل كان لفعله هذا أصل عام يندرج تحته؟ وكذلك غيرها من أفعال وأقوال الصحابة المشابهة، ثم إننا لو سلمنا جدلًا أن هذه الأفعال والأقوال كلها أو بعضها تندرج تحت أصل عام، فماذا بقي مما لا يندرج تحت أصل عام، فعلى هذا يجوز لنا أن نأتي في الصلاة بأذكار لم ترد فيها، من باب أنها تندرج تحت أصل عام، ومن باب أن الصحابي فعلها فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم؛ فقد خالفنا مفهوم البدعة عند كثير من العلماء، فهل مفهوم البدعة عند الصحابة مختلف عن مفهوم البدعة عند من جاء بعدهم؟ وإن كان مفهومنا للبدعة صحيحًا، فما الضابط أو الدليل الذي أخرج الصحابة واستثناهم من مفهومنا؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

فالذي يمكننا قوله لك باختصار: إن ما فعله الصحابة الكرام وأقره عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس داخلًا في حد البدعة ومفهومها؛ لأن الزمن زمن تشريع؛ ولهذا يعرف بعض العلماء البدعة بما أُحْدِثَ بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عرفها محمد الخادمي الحنفي بقوله: البدعة في الشريعة إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

وهذا لا يعني أن البدعة يختلف مفهومها بين ما فعله الصحابة وما فعله غيرهم، أو أن كل ما فعله الصحابة خارج عن حد البدعة؛ لأن هناك أشياء فعلها بعضُ الصحابة، ولم يقرهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأنكرها، فدخلت في حد البدعة، ومن أمثلة ذلك إنكاره عليه الصلاة والسلام على من نذر أن لا يستظل، ولا يقعد، ولا يتكلم، كما في الحديث في صحيح البخاري وغيره، عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلًا قائمًا في الشَّمس، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يجلس، ولا يستظل، وأن يصوم، فقال: مُرُوه فلْيَجْلِس، وليَسْتَظِلَّ، وليَتكلم، وليتِمَّ صومَه.

فقد سمى العلماء ذلك النذر غير المشروع بدعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فلما كان هذا النَّاذِرُ نَذَرَ ما هو سُنَّة، وما هو بدعة، أَمَرَه بالوفاء بالسنة دون البدعة. اهـ.

وكذا إنكاره صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ الرهبانيةَ التي سلكها أول الأمر، ففي حديث سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ في الصحيحين قال: رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا.

وفي مسند أحمد، وصحيح ابن حبان عن عائشة ـ رضي الله تعالى عَنْهَا ـ قَالَتْ: دَخَلَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ -وَاسْمُهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ- عَلَى عَائِشَةَ، وَهِيَ بَذَّةُ الْهَيْئَةِ، فَسَأَلَتْهَا عَائِشَةُ: مَا شَأْنُكِ؟ فَقَالَتْ: زَوْجِي يَقُومُ اللَّيْلَ، وَيَصُومُ النَّهَارَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فذكرت عائشة لَهُ، فَلَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ، إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا، أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.. إلخ.

وفي لفظ عند الطبراني بسند فيه ضعف: إِنَّمَا بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَلَمْ أُبْعَثْ بِالرَّهْبَانِيَّةِ الْبِدْعَةِ.

وكإنكاره على بعضهم حين قال: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. والحديث في الصحيحين.

قال الشوكاني في نيل الأوطار: أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ التَّارِكَ لِهَدْيِهِ الْقَوِيمِ، الْمَائِلِ إلَى الرَّهْبَانِيَّةِ، خَارِجٌ عَنْ الِاتِّبَاعِ إلَى الِابْتِدَاعِ. اهـ.

فأنت ترى ـ أخي السائل ـ أن ما فعله بعض الصحابة وأنكره عليهم داخل في حد البدعة، بخلاف ما أقره عليهم، فإنه داخل في حد المشروع؛ ولهذا كان تعريف الإمام الشاطبي للبدعة أشمل، ويدخل فيه ما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة، فقد عَرَّفَ الإمام الشاطبيُّ البدعة بقوله: طَرِيقَةٍ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٍ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. انتهى.

ولعل في هذا كفاية، وإزالة للإشكال الذي ذكرته.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني