الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحكمة من تفاوت أدلة الشرع في الدلالة والثبوت

السؤال

لماذا رب العالمين لم يضبط لنا الدين، حيث تعهد لنا بحفظه؟ وأقصد بالضبط مثلا: بعض الأحاديث إذا وجد يينها تعارض ظاهر قام العلماء بنسخ أحدها، والعمل بواحد بناء على الرأي، وبعض العلماء يستطيع الجمع بين الاثنين، فتكون النتيجة حذف أمر من الدين عند البعض، وبقائه عند آخرين.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فما ذكره الأخ السائل من مظاهر الخلاف في المسائل الفرعية، لا يترتب عليه وصف الدين بأنه غير منضبط، ولا يتعارض مع حفظ الله تعالى له! بل العكس هو الصحيح، فإن الاختلاف السائغ المبني على اجتهاد معتبر، يدل دلالة ظاهرة على السعة والمرونة التي يتسم بها التشريع الإسلامي، ولهذا وصف بعض أهل العلم اختلاف الأئمة المجتهدين بأنه رحمة واسعة، قال ابن قدامة في المغني: وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. انتهى.

وراجع في هذا المعنى الفتاوى التالية أرقامها: 40173، 123114، 106050.

ولمراعاة هذه الحكمة جاءت أدلة الشرع متفاوتة في الدلالة وفي الثبوت، قال الزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه: اعلم أن الله تعالى لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنية قصدا للتوسيع على المكلفين لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل عليه، وإذا ثبت أن المعتبر في الأحكام الشرعية الأدلة الظنية، فقد تعارض بعارض في الظاهر بحسب جلائها وخفائها... اهـ.

ونقل هذا الكلام الأستاذ محمد عوام في بحثه: الفكر المنهجي العلمي عند الأصوليين ص 72 ـ ثم قال: ويلوح من هذا أن التنوع في الأدلة من قطعية وظنية إنما هو مقصود للشارع، ودليل على الحكمة والإبداع ورفع العنت والحرج على المكلفين واستمرار الشريعة لتجد متسعا في الاجتهاد حتى تشمل وتسع كافة المستجدات والوقائع في كل زمان ومكان، فالتنوع في الخلق، والتنوع في الشرائع، والتنوع كذلك في الأدلة هي حكمة الباري. اهـ.

وهنا لابد من ملاحظة أن هذا النوع من الخلاف لا يترتب عليه شقاق ونزاع بين أهل العلم، ولا يفسد للود قضية، وهو يقع على خلاف الأصل الذي هو الاجتماع والاتفاق على أصول الدين ومبانيه وفروعه الكلية، بعكس خلاف أهل الأهواء فهو المذموم الضار المنهي عنه في الدين. وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 137905، 16387، 26350.

وحكمة أخرى وراء اختلاف الأدلة الشرعية وتفاوتها في الظهور والدلالة، وهي حصول الابتلاء الذي يتميز به المؤمن صادق الإيمان من غيره، حيث يتفاوت الناس في طلب الحق، والبحث عنه، وتحريه وبذل الجهد لموافقته، وهذا يكون من باب الرد إلى الله ورسوله عند النزاع، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ {النساء: 59}.

قال العلامة ابن عاشور في التحرير والتنوير: عموم لفظ: شيء ـ في سياق الشرط يقتضي عموم الأمر بالرد إلى الله والرسول، وعموم أحوال التنازع، تبعا لعموم الأشياء المتنازع فيها، فمن ذلك الخصومات والدعاوى في الحقوق... ومن ذلك اختلاف أهل العلم في الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد والنظر في أدلة الشريعة، فكل هذا الاختلاف والتنازع مأمور أصحابه برد أمره إلى الله والرسول، ورد كل نوع من ذلك يتعين أن يكون بحيث يرجى معه زوال الاختلاف، وذلك ببذل الجهد والوسع في الوصول إلى الحق الجلي في تلك الأحوال.. وذكر الرد إلى الله في هذا مقصود منه مراقبة الله تعالى في طلب انجلاء الحق في مواقع النزاع، تعظيما لله تعالى. اهـ.

ولمزيد الفائدة عن ذلك، يمكن مراجعة الفتوى رقم: 52475.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني