الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

بعد ردكم على الفتوى رقم:2642621، أريد الاستفسار عن معنى هذا الحديث: عن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله:
إنَّ أكثرَ النَّاسِ شبعًا في الدُّنيا، أطولُهم جوعًا يومَ القيامةِ ـ المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الترغيب، الصفحة أو الرقم: 2139
خلاصة حكم المحدث: صحيح لغيره، فهل هذا يعتبر عقابا لمن يشبع كثيرا؟ وكوننا نشبع كل يوم، وإذا جعنا اشترينا وأكلنا، وإذا اشتهينا حصلنا على ما نشتهي ندخل في هذا الحديث؟ وكيف نستطيع تطبيق الحديث؟ فآباؤنا علمونا الدين، والله فتحها عليهم ونقلهم من فقر إلى غنى، ولم يحرمونا أي شيء، فكل طعام ذقناه، وكل شراب شربناه، وكل ملبس لبسناه، وكل ما نريده نحصل عليه، فهل يعتبر هذا جزاءنا في الدنيا وسينقص من أجورنا؟ ونحن كأبناء، لم نتعب في حياتنا، فكلها نعم من الله أنعم بها علينا، ولا ولن نستطيع شكرها، فهل الزهد في ما أنعم الله علينا وتقليلنا منه يعتبر كفر نعمة؟ وما حكم تجويع النفس نصف اليوم أو أغلبه دون صيام؟ وهل يؤجر المرء على ترك شهوة الحلال من الطعام والشراب؟.
وجزاكم الله كل خير.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فهذا الحديث جاء في ذم الشبع وكثرة الأكل، وبوب عليه ابن ماجه في سننه: باب الاقتصاد في الأكل وكراهية الشبع ـ وبوب عليه البيهقي في الآداب: باب كراهية كثرة الأكل ـ وذكره المنذري في الترغيب والترهيب في: باب الترهيب من الإمعان في التشبع والتوسع في المآكل والمشارب شَرَهًا وبطرا ـ وذكر معه أحاديث بمعناه، ولذلك تغير حال أبي جحيفة ـ رضي الله عنه ـ الذي تجشأ عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له هذا الحديث، قال راوي الحديث بعده: فما أكل أبو جحيفة ملء بطنه حتى فارق الدنيا، كان إذا تعشى لم يتغد، وإذا تغدى لم يتعش. رواه البيهقي في الشعب، وابن عبد البر في الاستيعاب، وقال: ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وأبو جحيفة لم يبلغ الحلم، ولكنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه. اهـ.

وهذا الذم لكثرة الأكل إنما كان لما يقترن به غالبا من التقصير في الطاعة والتكاسل عنها، ولما فيه من تفويت درجات عالية ومنازل سامية يوم القيامة، بسبب التوسع في شهوات الدنيا، قال القاضي البيضاوي في شرح مصابيح السنة: والمراد به: النهي عن إكثار الطعام والإفراط فيه، المؤدي إلى الامتلاء المفسد للطعام، المقتضي لكثرة الجشاء. اهـ.

وقال الكَرمانيّ في شرح المصابيح: والنهي وإن ورد عن الجُشاء لفظًا لكنه على إكثار الطعام معنىً، لأنه المقتضي له، ولأن الجُشاءَ إذا استولى كان أمرًا طبيعيًا لم يُقدَر على دفعه، وسببه ـ وهو الشبع ـ أمر مقدور، فيَرِدُ النهي عليه. اهـ.

وقال الصنعاني في التنوير: لأنّه يكثر أكله فيكثر شربه فيكثر نومه، فتفوته الأعمال الصالحة فيخسر الآخرة. اهـ.

وقال المناوي في التيسير: لأن من كثر أكله كثر شربه، فكثر نومه، فكسل جسمه، ومحقت بركة عمره، ففتر عن عبادة ربه، فلا يعبأ يوم القيامة به، فيصير فيها مطرودا جيعانا حيرانا. اهـ.

فهذا هو سبب الوعيد المذكور في الحديث، وله محمل آخر وهو ارتباط كثرة الأكل بالغنى، والأغنياء يؤخرون عن الفقراء في دخول الجنة، فبينما يتنعم فيها الفقراء يقف الأغنياء للحساب، وقد أشار القاري في المرقاة إلى هذا المعنى في شرح حديث: إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا ـ حيث قال: خلاصته أن الفقراء في تلك المدة لهم حسن العيش في العقبى مجازاة لما فاتهم من التنعم في الدنيا، كما قال تعالى: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية {الحاقة: 24} أي: الماضية، أو الخالية عن المأكل والمشرب صياما أو وقت المجاعة، وقد ورد على ما سبق: إن أطول الناس جوعا يوم القيامة أطولهم شبعا في الدنيا. اهـ.

ومما يؤكد ذم الشبع الدائم وكثرة الأكل، ما ورد في شدة حال عيش النبي صلى الله عليه وسلم وما فيه من التقلل من الدنيا، وقد جمع الإمام مسلم في صحيحه طائفة من هذه الأحاديث، كحديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين ـ وحديث أبي هريرة قال: والذي نفسي بيده؛ ما أشبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله ثلاثة أيام تباعا، من خبز حنطة، حتى فارق الدنيا ـ وحديث عمر أنه ذكر ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي، ما يجد دقلا يملأ به بطنه.
قال القاضي عياض في إكمال المعلم: وفي هذه الأحاديث التي جاءت في عيش النبي صلى الله عليه وسلم وتعلله، ودعائه أن يجعل الله رزقه قوتا، دليل على فضل الزهد في الدنيا والتقلل منها، وهذا مما لا خلاف في فضيلته لخفة حسابه. اهـ.

ولم يكن هذا العيش من النبي صلى الله عليه وسلم اضطرارا في كل أحواله، بل كان اختيارا منه صلى الله عليه وسلم أحيانا، قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، فإن ذلك لم يكن منه في كل أحواله لعوز ولا ضيق، وكيف ذلك؟ وقد كان الله أفاء عليه قبل وفاته بلاد العرب كلها، ونقل إليه الخراج من بعض بلاد العجم كأيله والبحرين وهجر، ولكن كان بعضه لما وصفت من إيثار نوائب حقوق الله، وبعضه كراهية منه الشبع وكثرة الأكل، فإنه كان يكرهه ويؤدب أصحابه به... وعلى إيثار الجوع وقلة الشبع مع وجود السبيل إليه مرة وعدمه أخرى، مضى الخيار من الصحابة والتابعين، وروى وهب بن كيسان عن جابر قال: لقيني عمر بن الخطاب ومعي لحم اشتريته بدرهم، فقال: ما هذا؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، اشتريته للصبيان والنساء، فقال عمر: لا يشتهي أحدكم شيئا إلا وقع فيه، أولا يطوي أحدكم بطنه لجاره وابن عمه، أين تذهب عنكم هذه الآية: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها؟ وقال هشيم عن منصور، عن ابن سيرين أن رجلا قال لابن عمر: اجعل جوارشنا؟ قال: ما هو؟ قال: شيء إذا كظمك الطعام فأصبت منه سهل عليك، قال ابن عمر: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وما ذاك إلا أكون له واجدا، ولكني عهدت قوما يشبعون مرة ويجوعون مرة... وقال مجاهد: لو أكلت كل ما أشتهي ما سويت حشفة، وقال الفضيل: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الأكل والكلام. اهـ.

وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجوعون كثيرا، ويتقللون من أكل الشهوات، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام، إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها، ولهذا كان ابن عمر يتشبه بهم في ذلك ـ مع قدرته على الطعام ـ وكذلك كان أبوه من قبله.... وقد ذم الله ورسوله من اتبع الشهوات، قال تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب {مريم: 59ـ 60} وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن ـ وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى رجلا سمينا فجعل يومئ بيده إلى بطنه ويقول: لو كان هذا في غير هذا، لكان خيرا لك ـ وفي المسند عن أبي برزة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى ـ وفي مسند البزار وغيره عن فاطمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام. اهـ.

هذا؛ ويحسن التنبيه هنا على أن الأكل يأخذ الأحكام التكليفية الخمسة، بحسب الحال، قال ابن الحاج في المدخل: الأكل في نفسه على خمس مراتب: واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرم، فالواجب ما يقيم به صلبه لأداء فرض ربه، لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، والمندوب ما يعينه على تحصيل النوافل وعلى تعلم العلم وغير ذلك من الطاعات والمباح الشبع الشرعي، والمكروه ما زاد على الشبع قليلا ولم يتضرر به، والمحرم البطنة وهو الأكل الكثير المضر للبدن. اهـ.
وقال زين الدين الرازي في تحفة الملوك: الأكل على ثلاث مراتب: فرض وهو قدر ما يندفع به الهلاك ويمكن معه الصلاة قائما، ومباح وهو أدنى الشبع بنية أن يقوى على العبادة ويحاسب فيه حسابا يسيرا إن كان من حل، وحرام وهو ما زاد على ذلك. اهـ.

وراجع ما أجبناك به سابقا في الفتوى رقم: 339112.

وفي هذا القدر كفاية ـ إن شاء الله ـ وأما بقية الأسئلة فبإمكانك معرفة جوابها ضمنيا مما ذكرناه لك هنا، وإن كنت ترغب في جواب مباشر لها فنرجو أن ترسل كل سؤال على حدته، اتباعا لسياسة الموقع في جواب السؤال الأول فقط من الأسئلة المتعددة.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني