الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الاهتداء والإضلال.... رؤية شرعية

السؤال

يروي أبي وهو مدمن على التدخين:
التقيت بصديق فقال لي: أما زلت تدخن؟ فقلت: نعم وأنت؟ فقال: أنا أوقفت التدخين، وفقني الله بسبب دعاء دعوته ألا وهو: (يا رب إن لم تنجني من هذا التدخين، فستكون أنت من تركني في هذه التهلكة) ولم أدخن بعدها أبدا.
ثم أكمل أبي وقال: جربت هذا الدعاء قبل رمضان بليلة، ثم في اليوم التالي لما أفطرنا، وكان من عادتي أن أهرع للتدخين، بغرابة لم يخطر في بالي ذلك أبدا، وكذا في اليوم الذي بعد والذي بعده، لم يخطر في بالي التدخين أبدا، وهكذا لمدة ٣ أشهر، ولاحظت أنني لما توقفت عن التدخين أصبحت آكل كثيرا، فأزلني الشيطان فعدت لذلك.
علما أن أبي شغوف جدا بالتدخين، يدخن منذ أكثر من ٢٠ عاما، وأكثر من ثلاث علب باليوم، فاجأني بقدرته على التوقف لمدة ٣ أشهر بفضل ذاك الدعاء.
لذا أتساءل، هل هذا النوع من الدعاء جائز؟ فقد بدا لي أن فيه نوعا من العتاب، وإن لم يستطع عبد أن يتخلص من معصية وإن كان يريد ذلك، كالتدخين وشرب الخمر، فهل ذلك من الله؟
وشكرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن مثل الكلام المذكور في هذا الدعاء يعتبر من سوء الأدب مع الله، ومن الاحتجاج بالقدر على المعاصي، والاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الطاعات احتجاج باطل في الشرع، والعقل، والواقع، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء؛ فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر. ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه، بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بدائه العقول. انتهى من مجموع الفتاوى (8/179)
وأما قولك: (فاجأني بقدرته على التوقف لمدة 3 أشهر بفضل ذاك الدعاء): فما يدريك أن توقفه كان إجابة من الله لدعائه ذلك؟ ثم إن الإجابة لدعاء الداعي لا تقتضي مشروعية دعائه أصلا، قال ابن تيمية: وأما إجابة الدعاء -عند المشاهد الباطلة- فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمرا قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى، وإن كانت فتنة في حق الداعي، فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون، وينصرون ويعانون، ويرزقون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها. وقد قال الله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] . وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها، ليس هذا موضع تفصيلها، وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة .اهـ. من اقتضاء الصراط المستقيم.

وأما قولك: (وإن لم يستطع عبد أن يتخلص من معصية وإن كان يريد ذلك، كالتدخين وشرب الخمر، فهل ذلك من الله) فلا ريب في أن إدمان العبد المعصية وعدم تخلصه منها واقع بقضاء الله وقدره -وهذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة خلافا للقدرية- فالله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كما قال سبحانه وتعالى: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ {الأعراف:186}، وغير ذلك من الآيات، لكن الله سبحانه وتعالى لا يحاسب العبد ولا يعاقبه إلا على فعله وكسبه وتصرفه، فقد أعطاه عقلا وسمعاً وإدراكاً وإرادة ليعرف الخير من الشر، والضار من النافع، قال الله تعالى: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ {التكوير:28}، وقال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا {الشمس:9-10}، وقال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا {الإنسان:3}، وبذلك تعلقت التكاليف الشرعية به من الأمر والنهي، واستحق الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، ومعلوم أن جبر المرء على الأفعال هو أن يقهر عليها قهراً، دون رغبة ولا اختيار منه، كما يجبر السجين على دخول السجن ونحو ذلك، وأن يحال بينه وبين ما يريد، كما في حال سفينة البحر إذا أراد نوتيها توجيهها إلى جهة معينة وعصفت بها الريح فحولت اتجاهها إلى جهة أخرى، وكل عاقل يدرك أنه فاعل بالاختيار، يأتي المعصية باختياره وإرادته، كما يقوم بالطاعة بإرادته واختياره، وعلم الله السابق بحال هذا الإنسان ومصيره لا يعني أن الإنسان مجبور على سلوك طريق معين، بل قد جعل الله له الاختيار؛ كما في قوله: فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ {الكهف:29}. وقال الله تعالى: مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ {آل عمران: 152}. وقال: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ {فصلت: 46}.

قال ابن القيم -رحمه الله-: وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم وكتبه المنزلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال بيده لا بيد العبد، وأن العبد هو الضال أو المهتدي؛ فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه. انتهى.
وهذا الإضلال يكون بحجب الله توفيقه عن العبد، وتخليته بينه وبين تلك الذنوب، فإذا خلى الله العبد ونفسه الظالمة الجاهلة أوجب له ذلك أن يختار الضلال على الهدى، فيزيده الله ضلالًا على ضلاله باختياره ما يسخطه سبحانه، ولله في ذلك كله الحكمة البالغة، ففعل الله كله خير، ولا يتطرق الشرّ إليه بوجه من الوجوه، وإنما الشرّ في فعل العبد وهو منسوب إليه.

قال ابن القيم: فَإِذَا بَقِيَتِ النَّفْسُ عَلَى عَدَمِ كَمَالِهَا الْأَصْلِيِّ، وَهِيَ مُتَحَرِّكَةٌ بِالذَّاتِ لَمْ تُخْلَقْ سَاكِنَةً؛ تَحَرَّكَتْ فِي أَسْبَابِ مُضَارَّتِهَا وَأَلَمِهَا، فَتُعَاقَبُ بِخَلْقِ أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ، يُرِيدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَكْوِينَهَا عَدْلًا مِنْهُ فِي هَذِهِ النَّفْسِ وَعُقُوبَةً لَهَا ... وَإِذَا أَخْلَى الْعَبْدُ قَلْبَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَطَلَبَ مَرْضَاتِهِ، وَأَخْلَى لِسَانَهُ مِنْ ذِكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَجَوَارِحَهُ مِنْ شُكْرِهِ وَطَاعَتِهِ، فَلَمْ يُرِدْ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ وَنَسِيَ رَبَّهُ، لَمْ يُرِدِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعِيذَهُ مِنْ ذَلِكَ وَنَسِيَهُ كَمَا نَسِيَهُ، وَقَطَعَ الْإِمْدَادَ الْوَاصِلَ إِلَيْهِ مِنْهُ، كَمَا قَطَعَ الْعَبْدُ الْعُبُودِيَّةَ وَالشُّكْرَ وَالتَّقْوَى الَّتِي تَنَالُهُ مِنْ عِبَادِهِ، قَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]. فَإِذَا أَمْسَكَ الْعَبْدُ عَمَّا يَنَالُ رَبَّهُ مِنْهُ أَمْسَكَ الرَّبُّ عَمَّا يَنَالُ الْعَبْدَ مِنْ تَوْفِيقِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] أَيْ: نُخَلِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُفُوسِهِمُ الَّتِي لَيْسَ لَهُمْ مِنْهَا إِلَّا الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] فَعَدَمُ إِرَادَتِهِ تَطْهِيرَهُمْ، وَتَخْلِيَتُهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُفُوسِهِمْ -أَوْجَبَ لَهُمْ مِنَ الشَّرِّ مَا أَوْجَبَهُ. انتهى.

وراجعي لمزيد بيان الفتوى: 300247، والفتوى: 321352، والفتوى: 312490.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني