الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يستوي في التحريم الربا الاستغلالي وفوائد البنوك؟

السؤال

هل الربا المقصود في الإسلام، هو الزيادة المشروطة على المال عند رده -أيًّا كان ميعاد الرد-، أم هو الزيادة على المال عند تعثر السداد في الميعاد المحدد؟ أي: هل كان يقصد بتحريم الربا منع استغلال الدائن للمدين؟
والغرض من السؤال هو الرد على حجة أن الربا المحرم كان محرمًا؛ لأنه كان استغلالًا لحوائج الناس، بينما فوائد البنوك حاليًّا ما هي إلا نصيبك من تجارتهم التي أشركوا مالك بها، ولا يوجد في هذه الحالة استغلال من طرف لآخر.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فكلا الأمرين هو الربا المحرم بعينه، وهو من أكبر الكبائر، ومن السبع الموبقات، ومما يوجب اللعن، ويمحق البركة.

ولا يختلف الحكم باختلاف أجل رد المال، ولا بحال المقترض من الغنى والفقر، أو اليسار والإعسار، فمجرد اشتراط الزيادة في رد القرض، تجعله محرمًا، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: قال ابن عبد البر -رحمه الله-: وكل زيادة في سلف، أو منفعة ينتفع بها المسلف، فهي ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام، إن كان بشرط.

وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة، أو هدية، فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا.

واستدلوا على ذلك: بما روي من النهي عن كل قرض جر نفعًا. أي: للمقرض. اهـ.

وقول بعض الناس: إنّ الربا المحرم هو الربا الاستغلالي، الذي يستغل فيه المقرض حاجة المقترض وفقره، وأمّا القروض الإنتاجية، فليست من الربا المحرم، فهذا كلام باطل، بلا ريب.

وقد جاء في مجلة البحوث الإسلامية، ردًّا على بعض الكتاب الذين أثاروا هذه الشبهة: ويمكن أن نرد شبهة الكاتب، ومن سبقه في هذا الميدان، بأن النصوص القرآنية المحرمة للربا وردت عامة، أو مطلقة، لم تفرق بين الفقير المحتاج والغني القادر، فتخصيصها، أو تقييدها بما يكون مع الفقير المحتاج، يحتاج إلى دليل، وما ذكر على أنه دليل للتخصيص، أو التقييد، لا يعتبر دليلًا، أو شبه دليل؛ لما يلي:

أولًا: أن الحث على التصدق لم يرد في كل آيات الربا، وحسبنا أن آية التحريم الصريحة هي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، لم يعقبها الحث على الصدقة.

ثانيًا: أن الحث على التصدق الوارد عقب بعض الآيات، ليس خاصًّا بالمدين دينًا ربويًّا، بل يشمله، ويشمل غيره؛ لورود الحث على الصدقة بصيغ عامة.

ثالثًا: أن الغرض من الحث على الصدقة في بعض الآيات، هو بيان الطريق السوي الأمثل الذي يجب أن يسلكه المرابي، بدل طريق الربا المحرم، بل هو حث له، ولغيره، فلا علاقة للحث على الصدقة التي تكون للفقير المحتاج، بحقيقة الربا المحرم.

رابعًا: أنه على فرض دلالة الحث على الصدقة، على أن الربا المحرم هو الذي يكون مع الفقير المحتاج، فإنه لا طريق لذلك إلا الاقتران، ودلالة الاقتران دلالة غير معتبرة عند كثير من العلماء، ومن يعتبرها، فإنه يقرر أنها دلالة ضعيفة.

خامسًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أهدر ربا عمه العباس -رضي الله عنه-، ومن المعروف أن العباس كان يرابي مع التجار الأغنياء، ولم يكن يرابي مع المحتاجين من الفقراء، كما قررناه من قبل.

وهذا يدل على أن الربا المحرم ليس قاصرًا على المعاملة مع الفقراء المحتاجين، والرسول عليه الصلاة والسلام مبين لما جاء في القرآن الكريم، وكل ذلك يدل على بطلان هذه الخاصة.

سادسًا: أن العرب كانوا تجارًا، وكانت تجارتهم تمتد إلى خارج بلادهم في الشام، واليمن، فما المانع لهم من التعامل بالربا في التجارة؟

ثم الذي يقول: (إنما البيع مثل الربا) هم التجار، أو الفقراء المحتاجون للصدقة؟ أليسوا هم التجار الذين يتعاملون بالربا، ويقيسونه على البيع، ويجعلونه نوعًا من أنواع البيع، كما يقول بعض كتاب هذا العصر؟ وما دخل الفقراء المحتاجين في جعل الربا مثل البيع، وهم لا يزاولون بيعًا، ولا تجارة؟ ثم أليس في مقابلة الربا بالبيع في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، ما يشعر بأن العرب كانت تتعامل في الربا للأغراض التجارية؟

إن ذلك كله يدل على أن تحريم الربا نزل في مجتمع كان فريق التجار فيه يتعاملون بالربا، وهو ربا استغلالي، وليس ربا استهلاكيًّا، ومعنى هذا أن تحريم الربا يشمل الربا الاستهلاكي، والاستغلالي، ومن ثم؛ تبطل شبهتهم، ودعواهم في قصر الربا على الربا الاستهلاكي. ثم هل قامت المصارف، أو تقوم بإقراض أهل الحاجة والفقر قروضًا حسنة بدون فوائد؟ أو أنها سلبتهم البقية الباقية من أموالهم بدون إشفاق على ضعفهم، أو رحمة بصغارهم، أو مراعاة لحاجتهم وأحوالهم.

سابعًا: أن قصر الربا القرآني المحرم على المعاملة مع الفقير المحتاج دون الغني القادر، أو بعبارة أخرى: قصره على الربا الاستهلاكي دون الربا الاستغلالي، لم يقل به أحد من المفسرين، ولا أحد من الفقهاء، ولم يظهر منه شيء في تعريفاتهم للربا على اختلاف مذاهبهم، ومناهجهم، ولم يظهر القول به إلا في هذا العصر على لسان من يدعي التحرر، والاجتهاد، ومن هؤلاء صاحب المقال. ولكنه -بكل أسف- على حساب الشريعة بإخضاعها لواقع الناس، وأهوائهم.

إننا لسنا ضد التجديد، والاجتهاد، بل على العكس ندعو إلى فتح أبوابهما على مصاريعها، ولكن في إطار نصوص الشريعة، وقواعدها الكلية، وفي الحدود المرسومة للاجتهاد، والاستنباط من الكتاب والسنة.

ونخلص من ذلك كله: إلى أن الاحتياج للصدقة ليس خاصية للربا المحرم، ولا جزءًا من حقيقته، ولا وصفًا لازمًا له.

وإن الرأي القائل بأن الربا القرآني المحرم هو ربا الاستهلاك، أي: الربا الذي يأخذه الدائن من الفقير الذي يستهلك الدين في حاجته الضرورية من طعام، وشراب، وكساء، ومأوى، ودواء، دون ربا الاستغلال، أي: الربا الذي يأخذه الدائن من الغني الذي يقصد بدينه الاستثمار في التجارة، أو الزراعة، أو الصناعة، قول باطل؛ لعدم استناده إلى دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس، أو لغة، أو نظر سليم، أو قول لأحد من الفقهاء، بل الأدلة قائمة على تحريم كل من ربا الاستهلاك، وربا الاستغلال، بما ذكرناه سابقًا، وبما سيأتي.

ونختم هذه النقطة بفتوى مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، في مؤتمره الثاني المنعقد في شهر المحرم 1385 هـ (مايو 1965م)، ونصها: والفائدة على أنواع القروض، كلها ربا محرم، لا فرق بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي، وما يسمى بالقرض الإنتاجي (الاستغلالي)، وكثير الربا في ذلك وقليله حرام، والإقراض بالربا محرم، لا تبيحه حاجة، ولا ضرورة، والاقتراض بالربا كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه ضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقدير الضرورة. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني