الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

عندي سؤالان عن الهجرة في المذهب المالكي؛ فقد قرأت عنها في كتاب الأربعين النووية شرح المؤلف -رحمه الله- فذكر نصفها فقط.
السؤال الأول: هل أجدها عندكم كاملة، فقد بحثت عنها ولم أجدها.
السؤال الثاني هو: هل أهل السنة والجماعة اتفقوا على أن قول الإمام مالك، بتقسيم الهجرة طلبا وهربا، على أنه قول راجح في مذهب أهل السنة والجماعة؟
أرجو الرد.
وجزاكم الله عنا كل الخير، ونفع بكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فسؤالك غير واضح، لكن إذا كنت تقصد بسؤالك الأول أنك تريد شرح النووي كاملا على الأربعين حديثا. فالجواب أنه موجود في شبكة الانترنت, ويمكنك تحميله بسهولة.

أما بخصوص السؤال الثاني: فإن تقسيم الهجرة طلبا وهربا، قد نسبه ابن العربي المالكي للعلماء، وليس للإمام مالك بخصوصه.

قال النووي في شرحه على الأربعين حديثا النووية: قال ابن العربي: قسم العلماء -رضي الله عنهم- الذهاب في الأرض هربا, وطلبا.

فالأول ينقسم إلى ستة أقسام : الأول الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام.... إلخ.

وأما قسمُ الطلب فينقسم إلى عشرة: طلب دين, وطلب دنيا .... إلى آخر كلامه الطويل.

وهذا التقسيم غير متفق عليه, بل ذكر بعض أهل العلم تقسيمات أخرى للهجرة.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري أثناء الحديث عن الهجرة: وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين:

الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتي الحبشة، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.

الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين. وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة، فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه، باقيا. انتهى.

وقال العراقي في طرح التثريب: وقال ابن دقيق العيد: الهجرة تقع على أمور:
(الهجرة الأولى) إلى أرض الحبشة

(الثانية) من مكة إلى المدينة.
(الثالثة) هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(الرابعة) هجرة من أسلم من أهل مكة.
(الخامسة) هجرة ما نهى الله عنه.

قال: ومعنى الحديث وحكمه يتناول الجميع، غير أن السبب يقتضي أن المراد بالحديث الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنهم نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة، تسمى أم قيس، فسمي مهاجر أم قيس.
(قلت): بقي عليه من أقسام الهجرة ثلاثة أقسام، وهي (الهجرة الثانية) إلى أرض الحبشة، فإنهم هاجروا إلى الحبشة مرتين، كما هو معروف في السير، ولا يقال: كلاهما هجرة إلى الحبشة، فاكتفى بذكر الهجرة إليها مرة، فإنه قد عدد الهجرة إلى المدينة في الأقسام لتعددها.
(والهجرة الثانية) هجرة من كان مقيما ببلاد الكفر، ولا يقدر على إظهار الدين، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى بلاد الإسلام، كما صرح به أصحابنا. (والهجرة الثالثة) الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن، كما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها» الحديث. ورواه أحمد في مسنده، فجعله من حديث عبد الله بن عمر. قال صاحب النهاية: يريد به الشام؛ لأن إبراهيم لما خرج من العراق مضى إلى الشام وأقام به. انتهى. وروى أبو داود أيضا من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها دمشق، من خير مدائن الشام». فهذه ثمانية أقسام للهجرة. انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين:

أقسام الهجرة: الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان.

القسم الأول: هجرة المكان: فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي، ويكثر فيه الفسوق، وربما يكون بلد كفر إلى بلد لا يوجد فيه ذلك.
وأعظمه الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وقد ذكر أهل العلم أنه يجب على الإنسان أن يهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إذا كان غير قادر على إظهار دينه.

القسم الثاني: هجرة العمل، وهي أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فتهجر كل ما حرم الله عليك، سواء كان مما يتعلق بحقوق الله، أو ما يتعلق بحقوق عباد الله؛ فتجهر السب والشتم والقتل والغش، وأكل المال بالباطل، وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وكل شيء حرم الله تهجره، حتى لو أن نفسك دعتك إلى هذا وألحت عليك، فاذكر أن الله حرم ذلك حتى تهجره وتبعد عنه.

القسم الثالث: هجرة العامل، فإن العامل قد تجب هجرته أحياناً، قال أهل العلم: مثل الرجل المجاهر بالمعصية الذي لا يبالي بها؛ فإنه يشرع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة.
والمصلحة والفائدة أنه إذا هجر عرف قدر نفسه، ورجع عن المعصية. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني