الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معنى: "نمرّ الصفات كما جاءت بلا كيف"

السؤال

جاء في الفتوى: 68107: قولكم: ما معنى قول السلف: نمرها كما جاءت؟ نمرها بلا كيف، ولا نتعرض لكيفيتها.
قلتُ: وهذا الكلام لا بد من مراجعته، وتعديله، فالصواب -والله أعلم- أن يُقال: ما معنى قول السلف: نمرها كما جاءت؟ أي: نمرها بلا تكييف، وليس كيفًا؛ لأن صفات الله تعالى على كيفية، ولا بد، ولكن لا يعلمها إلا الله نفسه، ولا نتعرض لكيفيتها.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن عبارة: (بلا كيف) في سياق الكلام عن إثبات صفات الله، مستفيضة عن أئمة السلف، فقد أسند اللالكائي في شرح أصول أهل السنة: عن الوليد بن مسلم، قال: سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية, فقالوا: «أمروها بلا كيف».

وأسند عن سفيان بن عيينة: «كل شيء وصف الله به نفسه في القرآن، فقراءته تفسيره, لا كيف، ولا مثل».

وأسند عن ابن أبي حاتم, قال: سألت أبي، وأبا زرعة، عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين, وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار, وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: "أدركنا العلماء في جميع الأمصار -حجازًا، وعراقًا، وشامًا، ويمنًا-، فكان من مذهبهم: أن الله عز وجل على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه, وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بلا كيف, أحاط بكل شيء علمًا, {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

فهذا إمامان جليلان يحكيان هذه العبارة عن العلماء في جميع الأمصار!

وذكر أيضًا: عن حنبل بن إسحاق، قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا»، فقال أبو عبد الله: "نؤمن بها، ونصدق بها، ولا نرد شيئًا منها إذا كانت أسانيد صحاح, ولا نرد على رسول الله قوله، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق, حتى قلت لأبي عبد الله: "ينزل الله إلى سماء الدنيا، قال: قلت: نزوله بعلمه، بماذا؟ فقال لي: اسكت عن هذا, مالك ولهذا!؟ أمض الحديث على ما روي، بلا كيف، ولا حد, إنما جاءت به الآثار، وبما جاء به الكتاب، قال الله عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل:74]، ينزل كيف يشاء بعلمه، وقدرته، وعظمته, أحاط بكل شيء علمًا, لا يبلغ قدره واصف، ولا ينأى عنه هرب هارب.

والمقصود بعبارة (بلا كيف): أنه لا يُسأل عن صفات الله بـ(كيف)؛ لأن العباد لا يعلمون كيفية صفات الله جل وعلا.

وهذا ما شرحه الترمذي في سننه في عدة مواضع، فقد قال: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عباد بن منصور، قال: حدثنا القاسم بن محمد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم، كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ {التوبة:104}، و{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} {البقرة:276}، هذا حديث حسن صحيح. وقد روي عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا.

وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث، وما يشبه: هذا من الروايات من الصفات: ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تثبت الروايات في هذا، ويؤمن بها، ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟ هكذا روي عن مالك، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية، فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه.

وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه: اليد، والسمع، والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات، ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد ها هنا القوة.

وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا التشبيه.

وأما إذا قال كما قال: لله تعالى يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف، ولا يقول: مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهًا، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. اهـ.

وقال ابن تيمية في الفتوى الحموية الكبرى: فقول ربيعة، ومالك: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول»، موافقٌ لقول الباقين: «أمِرُّوها كما جاءت، بلا كيف»، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة.

ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله؛ لما قالوا: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول»، ولما قالوا: «أمِرُّوها كما جاءت، بلا كيف»، فإن الاستواء حينئذٍ، لا يكون معلومًا، بل مجهولًا بمنزلة حروف المعجم.

وأيضًا: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية، إذا لم يفهم من اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.

وأيضًا: فإن من ينفي الصفات الخبرية، أو الصفات مطلقًا، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر، لما قالوا: بلا كيف. اهـ.

وقال ابن القيم في مدارج السالكين: إن العقل قد يئس من تعرف كنه الصفة، وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف: بلا كيف. أي: بلا كيف يعقله البشر، فإن من لا تعلم حقيقة ذاته، وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته، وصفاته!؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق، وصفاته أعظم وأعظم، فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود، في معرفة كيفية من له الكمال كله، والجمال كله، والعلم كله، والقدرة كلها، والعظمة كلها، والكبرياء كلها؟. اهـ.

فالخلاصة: أن إنكارك لعبارة (بلا كيف)، لا وجه له.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني